كنعـان الضّاهـر الرّزّي بطل لبـنان وشهيد الكنيـسة يوم ٢ شباط ١٧٤١ عيد دخـول المسيح إلى الهـيكل
كنعـان الضّاهـر الرّزّي بطل لبـنان وشهيد الكنيـسة يوم ٢ شباط ١٧٤١ عيد دخـول المسيح إلى الهـيكل
01 Feb
01Feb
هل أعظم من التزام الإنسان المسيحي بمسيحه ومسيحيّته حتّى الاستشهاد؟!
وهل أعظم من ازدراء أمجاد الدنيا وقـشورها ومغـرياتها الباطلة والتشبث بالمجد الباقي، فوق، في الوطن السّماويّ حيث الفرح الأزليّ مع الثالوث الأقـدس والملائكة، والقدّيسين والمختارين الأطهار الظافرين بأكاليل المجد الإلهيّ؟!
ولأنّ بطلنا الشـّيخ كنعان الضّاهر الرّزّي كان مقتنعاً بهذه الحقيقة، سار مع مخلـّصه وفاديه يسوع المسيح حتى النهاية، حتى الفداء!
من هو هذا الرّجل الرّجل من عندنا، من منبت الأبطال والعـباقرة والمبدعـين، من أرض القداسة والقدّيسين، أرض صيدا وصور وقانا الجليل وعـنايا وجربتا وكفيفان وقنوبين...؟
إنه ابن أسرة الرّزّي التي تحوّلت إلى أسرة الضّاهر من بلدة كفرزينا شمالي لبنان، والدته من آل رباح الخازن من ساحل علما - كسروان التي أنشأته على حب الله والوطن، والده الشيخ شديد الخوري ضاهر الذي تربّى تربية مسيحيّة ووطنيّة صحيحة نقلها إلى عائلته وتحديداً إلى كنعان الذي خدم لبنان والكنيسة إلى أن استحقّ أن يحضر المجمع اللبناني الشهير سنة ١٧٣٦، وقد وقّع عليه إلى جانب نخبة من مشايخ لبنان وأنطيلبنان الذين كانوا في مقدّمة الموقعـين، أمّا توقيعه فكان هكذا: " كنعان ضاهر الرزي من مشايخ الزاوية ".
إنكبَّ المطران يوسف الدّبس على جمع الأخبار والمعـلومات المتـّصلة بشخصيّة هذا البطل وذلك نقلاً عن أحفاده في قريته وقرية كـفـرحورا، وهؤلاء قد ورثوا بدورهم تلك المعـلومات عن معاصري جدّهم الشهير.
قال : "... وكان مشهوراً بشجاعـته ونخوته.
ويروون عن فراسته روايات غريبة.
وكانت بينه وبين الطرابلسيّيـن محاسدة وخصام، فشكوه سنة ١٧٤١ إلى والي طرابلس عبد الرّحمن باشا.
فقبض عليه وألقاه في السّجن، وعـرض عليه أن يـُسلِـم، فأبى.
فأكثر له من الوَعـد إذا طاوعه، ومن الوَعـيد إذا خالفه.
فاستمرّ مجاهراً بإيمانه لا يحيله عنه حائـل.
وتيقـَّن أنّ الباشا مصمِّم على قتله، فاحتال حتى اجتمع بالخوري ميخائيل من إهدن، فاعترف عـنده اعـترافاً عاماً، وتيسّر له أن ناوله القربان المقدّس زاداً أخيـراً.
وبعد ذلك أمر بقطع رأسه، عـند " باب التبانة ".
فنفّذ الأمر.
والتقليد الذي ينقله الشيوخ، أنّ الله صنع آيات كثيرة إلى من زاروا مدفنه، وأنّ بعض النصارى قطعـوا يده بعد مقتله ووضعـوها في كنيسة العـذراء المعـروفة بسيّدة الحارة في طرابلس.
فأجرى الله آيات لِمَن تبرّكوا بها.
ويترجّح عندنا إنـّه هو الذي شهد المجمع اللبناني في جملة أعـيان الموارنة...".
البطريرك العلامة بولس مسعـد (١٨٠٦- ١٨٩٠) إبن عشقوت- كسروان، عهده بين ١٨٢٣ و ١٨٤٥، كتب في مفكرته الخطيّة عـن الحدث المشؤوم سنة ١٧٤١، قال: "في ٢ شباط عيد دخول المسيح للهيكل، قـُتـِل كنعان الضّاهر من مصطفى باشا والي طرابلس في بوابة التبانة، ودفن بكنيسة سيّدة الحارة التي بطرابلس".
الشـيخ طنّوس الشـدياق (شـقيق الأديب فارس الذي اعتنق الإسـلام) قال في مُؤلـّفه الشّـهير "أخبار الأعـيان"، صفحة ١٠٢- الطبعة الأولى سنة ١٨٥٩: "إنّ الباشا عـبد الرّحمن قبض على كنعان بن شديد فعـذّبه عـذاباً أليماً متنوّعاً.
وإنّ يده وضعـت في كنيسة سيّدة حارة الحصارنة".
الأب جـوزف غـودوار اليسـوعي تغنّى بشـهيدنا البطل في كـتابه "السّيدة العـذراء في لبنان"، الطبعة الأولى سنة ١٩٠٨، الصفحة ٢٧٦، قال: "شخصيّة شريفة لامعة، على غـنى ونفوذ لدى باشا طرابلس..."، وأضاف: "جثته طـُرِحَت للكلاب ثلاثة أيّام.
وإذ لم يجرؤ المسيحيّون على أخذها كاملة، اقتطعـوا ذراعها اليمنى ودفـنوها ذخيرة في كنيسة سيّدة الحارة".
كتب المطران يوسف دريان أسطراً في هذا المغوار البطل ضمن مؤلّفه "نبذة تاريخيّة في أصل الطائفة المارونيّة"، (طبعة ثانية ١٩١٦، صفحة ٢١٠ وما يليها): "إنّ ما وقع للشهيد مع "أهل طرابلس" كان ذوداً عن حياض بلاده. فكمنوا له أخيراً وأسروه غـيلةً سنة ١٧٤١، واقتادوه إلى عبد الرّحمن باشا والي طرابلس... ولم يلوه عن إيمان أجداده وعـدٌ ولا وعـيد، حتى قتل شهيداً. وأظهر كرامات تروى عنه بعد موته".
التقاليد والأخبار الموروثة لا سيّما من آل الضّاهـر وقراهم كفـرحورا، كفرزينا، كفرياشيت وعـرجس، تقول أنّ المسلمين، بعـد حدوث جريمة قتـل الشيخ كنعان، استولوا على بيته وأملاكه في قرية "عـردات" المجاورة لقرية "مجدليّا" بين زغـرتا وطرابلس، وما كان منهم إلا أن حوّلوه إلى جامع.
قيس بك الضّاهر المتوفـّي سنة ١٩٠٠ عن عمر ٨٥ عاماً، روى نقلاً عن لسان جدّته السّت برش، إن ّوالدها الشيخ راجي كان معاصراً الشـّهيد الشـّيخ كنعان، وكان يخبرها إنّه كان متمسّكاً بالدّين كلّ التمسّك، يدافع عـنه مدافعة الأبطال. فوَشى به أهلُ طرابلس المسلمون إلى حاكمهم عبد الرّحمن باشـا، وأوغـروا صدره عليه.
فأخذ الحاكم يترقّـّب الفرصة ليحتال عليه إلى أن أخذه غـدراً ووضعه في السّجن.
وكان يتردّد عليه في سجنه كثيراً، وقد أعجب ببطولته وفروسيّـته وشهامته، فرقّ قـلبه عليه، وأخذ يناشده كي يترك ديانته ويعتنق الإسلام، واعداً إيّاه مواعـيد خلابة.
فكان الشـّهيد الحيّ بإيمانه يرفض كلّ الإغراءات تلك... إلى أن تأكّـد من إنّه سيعـدم لا محالة، ولأنـّه أراد أن يرحل متمّماً واجباته الدّينيّة، ظلّ يسعى إلى أن استطاع أن يؤتى بالخوري ميخائيل الإهدني الذي سمع اعـترافه وناوله القربان المقدّس... دقّـت ساعة النهاية. أصدر الباشا الحكم الجائر المبرم بقطع رأس الشيخ كنعان.
السّيف ينتظر في يد الجلاد لحظة التنفيـذ! ولكن، قبيل قطع الرأس المسكون بمحبّة المسيح والإيمان به، اسـتدعى الباشـا بطلنا المقـدام لآخـر مرّة، ليـسمعه كلاماً قـديماً: " أسْـلِم تـَسلم وإلاّ قطعْـتُ رأسَـك".
أعـلن كنعان رفضه القاطع بقوله "...كيف يمكن للشيخ كنعان الضاهر أن يستبدل الجوهرة بفشكة، إنّ ديني على دين المسـيح!"!!!
وقطع رأسه بعـد أن تفوّه كنعان، بكلّ جرأة وثقة، بهذا الكلام الأقسى من حديد السّـيف والأمضى من حدّه البتـّار!
وأضاف قيس الضّاهـر، نقلاً عن لسان جدّته أيضاً: "بعد مقتل الشـّيخ كنعان بساعة، حضرت إمرأة مسيحيّة واحتالت على الوالي تقول: "إنّ كنعان هذا قـد قتل ابني، فأسألك أن تعطيني يده التي قتل بها إبني".
ونجحـت بحيلتها فأُعْطِيَت يد الشـّهيد، وحملتها فدفنتها في كنيسة سيّدة الحارة، حيث أخذ الناس يتواردون إلى التبرّك منها، ونالوا بها كرامات وأشفية عـديدة غريبة".
في هذا السّياق لا بدّ من مراجعة كتاب "مستندات تاريخية في شأن بعض الشهداء الموارنة " الذي طـُبع سنة ١٩٣٧ بأمر من المثلث الرّحمات البطريرك أنطوان عريضة هو الذي سافر إلى روما وفرنسا، وقـدّم إلى الكرسيّ الرسوليّ الفاتيكاني طلباً رسميّـاً يسأل طيّه قداسة الحبر الأعظم تطويب الشـّهيد الشيخ كنعان الضّاهر بالإضافة إلى شهداء موارنة آخرين هم: البطريرك جبرائيل من حجولا- بلاد جبيل، الشيخ يعـقوب أبو كرم حاكم جبّة بشرّي، الشيخ يونس أبي رزق البشعلاني أمين باشويّة طرابلس وحاكم المنطقة الشماليّة من لبنان وسوريا، ولكلّ من هؤلاء الأوفياء لدينهم ووطنهم حكايات بطولات!
بطلٌ هو هذا الرجل، وقد ضارعـت بطولته القداسة، كيف لا وهو الذي ظلّ كلام الرّبّ يساور فكره وقلبه حتى تقديم ذاته ذبيحة بحدّ السّيف العثماني، وقد اغتنى بكلام المعلّم : "من أراد أن يتبعتني، فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعـني. ومن أراد أن يخلّص حياته يخسرها ومن خسر حياته في سبيلي يخلّصها. فماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه أو أهلكها؟".
لقد أثمرت هذه الكلمات الإلهيّة في روح كنعان الذي شهد طيلة حياته لمعموديّته المقدّسة التي كان يجدّدها يوميّـاً فجعـلت منه أخاً وتلميذاً ورسولاً وشريكاً حقيقياً للمسيح.
شهد بكلمة الحقّ التي جاهـرَ بها بشجاعة الشـّجعان وإيمان المؤمنين واستشهد طوعاً رافضاً جحود دينه الحق ونكران المسيح وخيانته في لحظة تحديد المصير، مصغـياً إلى الرّب القائل: "من استحى بي وبكلامي، يستحي به ابن الإنسان متى جاء في مجده ومجد الآب والملائكة الأطهار...".
إنّها لصفحة مشرقة في تاريخ وطننا لبنان وكنيستنا المارونيّة المشرقيّة، تنيـر حاضرنا ومستقبلنا، فهل يعقـل أن نتجاهلها ونطمسها بدلاً من أن ننفض عنها غبار كسلنا ونعوّض ببذل الجهد المكثّف بكلّ ما أوتينا من قـدرات فنستثمر وزناتنا عاملين بوحي كلام السّـيّد المسـيح: "لا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال بل على المنارة".
ها هو الشيخ كنعان الضّاهر الرّزّي، سراج لبنانيّ نفاخر به، يشعّ عـلينا بعـد مرور أكثر من ٢٨٠ سنة على استشهاده!
لقد انقضّ السّـيف الحاقد على عـنق هذا البريء من أيّ تهمة، ليتدحرجَ الرأسُ تدَحْـرُجَ رأس يوحنـّا المعـمدان خاتمة الأنبياء... ويبقى رأس الحـقيقة أعلى من أن يناله سيف أو يطاله متطاول، ويظلّ دم الشهداء المسفوك من أجل المسيح يختلط بدمه المقدّس الذي به افتدى البشريّة جمعاء على خشبة الصّليب!!!
ها هو التلميذ الأمين يستصرخُ ضمائرنا، وقد لبّيتُ إذ تعـرّفـتُ عليه، ليس بالصّدفة، بل بتدبير إلهيّ أؤمنُ إنّه يقرّر متى وأين وكيف تهبُّ الرّوح... وقد هبّت فيّ لتخطّ يدي المسيحيّة اللبنانيّة هذه السّطور المطعّـمة بما أكتنزه، بنعـمة الله، من إيمان والتزام بكنيستي ووطني رسالة المحبة، ما يدفعـني إلى مناشدة أبينا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي لكي يبادر إلى إكمال مسيرة سلفه المثلث الرّحمات البطريرك عـريضة (عهده بين ١٩٣٢ و ١٩٥٥) لناحية إحياء الرّميم وإعادة فتح ملفّ تطويب هذا الشـّهيد الفذّ الذي نحن في صدده، مع غيره من شهدائنا الأبرار المذكورين آنفاً، إغـناءً لتاريخنا الحافـل بالبطولات، وكنعان هذا مشهود له بصولاته وجولاته الفروسيّة ومواجهاته الحربية المظفـّرة دفاعاً عن وطنه...
جهادٌ فاستشهادٌُ فشفاعةٌ لدى الله الذي كلل شهيدنا العـزيز، ابن أرضنا الخيّرة، الشيخ كنعان الضّاهر بإكليل المجد السّماويّ ليملك مع عـزّته الإلهيّة إلى الأبد.
لقد كافأ الله هذا البطل، أفلا يستحقّ منـّا نحن أبناء عائلته اللبنانيّة أن نكافئه أقلّه عبر المطالبة الجدّيّة والرّسميّة باسترجاع ممتلكاته من مغـتصبيها، ولو بعد مرور كلّ هذه السنين، ومن بين ممتلكاته منزله الذي حُوّل إلى جامع، والأجدر أن يتمّ تحويله إلى مزار يخصّ صاحبه الأصليّ، حيث يُصار إلى عـرض ما يعـثر عليه من تراثه لا سيّما من الكـتابات التاريخيّة عن شخصيّته الفذّة وبطولاته؟!
والمكافأة البديهيّة لا بدّ من أن تترجم عـبر تحويل كنيسة سيّدة الحارة في باب التبانة - طرابلس إلى مزار - محجّ (على أساس التدابير الصّادرة من الكنيسة وبعد إجراء المقتضى القانوني اللازم)، وهذا من شأنه أن يعـزّز الحضور المسيحيّ في هذه المنطقة، ومثـل هذا المشروع الرّوحيّ الحضاريّ إنّما ينفّذ بعـناية سيادة مطران طرابلس جورج أبو جودة... ومكافأتنا جميعاً محفوظة لدى الله.
وأخيراً لا يسعـنا سوى أن نهنّىء لبنان وأنفسنا بهكذا بطل، ونهنّىء عائلته آل الضّاهر العـريقة، وندعـوهم إلى حمل لوائه وصولاً إلى التطويب المَرْجو... ويأتي التقديس لاحقاً بمشيئة الله!