اليوم هو "يوم المسيح" الذي دخل فيه إلى مدينة أورشليم للمرة الأولى في العلن وليس متخفياً كما في المرّات السابقة، حان الوقت لإظهار مجده للناس بحسب مشيئة من أرسله وليس بحسب مشيئة من ينتظره.في سفر زكريا يصف هذا اليوم بكلمات نبوية ملؤهها الفرح "فرح الإنتصار".
يتوجه مباشرة إلى مدينة أورشليم، يُخاطبها كأنّها "شخصٌ" واعٍ يملك كل الملكات العقلية والأحاسيس البشرية "اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا بِنَتَ صِهْيَوْنَ وٱهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ" (سفر زكريا ٩/ ٩) يأمرها أن تستقبله بالبهجة والهتاف، كما إستقبل الملك داود تابوت العهد.
يُطلق زكريا على الملك الآتي إلى أورشليم ثلاثة ألقاب "بارًّا مُخلِّصًا وَضِيعًا" تبدو مألوفة اليوم لكن غريبة في ذاك الوقت وفي طبيعة الحال لا تطلق على الملوك.
فالإنسان البار هو الصادق الوفيّ، كثير الخير والإحسان، الصالح ذو الأخلاق الحسنة..
والمُخلّص فهو لَقَبٌ أعطي فقط للسَّيِّدِ الْمَسِيحِ الذي دخل مدينة الإنسان وأخذ طبيعته، جاء مُخَلِّصاً لَهُ مِن محدوديته، مُنْقِذاً له من غرائزه مُنَجِّياً لَه من الموت وهو المصير المحتوم.
أما "الوضيع" فهي صفة لا تشبه ملوك ذاك العصر ولا كل العصور، إذ يميل المتواضع بشكل دائم إلى تقديم مصالح الآخرين على مصلحته، دون انتظار أي شيء بالمقابل. بالإضافة إلى كونه يهتم بغيره أكثر من اهتمامه بنفسه.
وعندما يضطر المتواضع إلى اتخاذ قرارات هامة في حياته، يضع الرحمة والمغفرة في سلّم أولوياته.
يبتعد ملوك الأرض عن هذه الصفات لأنها تُشعرهم بالضعف أمام الموالين والخصوم، لذلك امتهنوا الأساليب التي تظهرهم أقوياء لا يَنهزمون، لبسوا الثياب الزاهية والتيجان المرصّعة، جلسوا على عروشٍ مُبهرة، سكنوا القصور والقلاع المحصّنة، ساروا بمواكب جبّارة لإخضاع الرعية وإخافة الأعداء..
ثار يسوع على ملوك الأرض، دخل مدينة الإنسان "بارًّا مُخلِّصًا وَضِيعًا رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ٱبْنِ أَتَانٍ" فكانت الثورة الأكبر في التاريخ البشري، فيسوع "ٱستأصِلُ الْمَرْكَبَةَ.. وَالْخَيلَ.. وقَوْسُ القِتال" والأهمّ من كل ذلك أنّه "يُكَلِّمُ الأُمَم بِالسَّلاَمِ" لم يعد الخلاص محصوراً باليهود دون غيرهم بل بجميع الأمم ولا العبادة في أورشليم فقط بل في كل مدن العالم.
أخرج يسوع الإنسان من صحراء الشريعة اليهودية التي لا ماء فيها وبالتالي لا حياة.
دخل يسوع إلى قلب المعاناة الإنسانية بموكبِ التواضع مع الأبرار الذين سترهم وخلّصهم "فِي ذلِكَ الْيَوْمِ" الذي هو "يومه" "فتَكُونوا أَنْقِيَاءَ وبِغَيْرِ عِثَارٍ إِلى يَوْمِ المَسِيح" ينمو هذا الموكب شيئاً فشيئاً كحبة الخردل ويُصبح "مِثْلَ حِجَارَةِ تَّاجٍ تَتَلَألأُ عَلَى أَرْضِهِ" لا بل على جبينه كإكليل مجدٍ لم يستطع أي من ملوك الأرض لباسه.
يختم زكريا مشهد دخول يسوع إلى مدينة الإنسان بوصفٍ دقيقٍ لوجه الملك "فإنّهُ مَا أَسْعَدَهُ وَمَا أَجْمَلَهُ!" ربّما يجوز السؤال ما الذي أسعده ومن جمّله؟ والجواب أيضاً مُلهم أشار فيه إلى القمح والنبيذ "اَلْقَمْحُ يُنْمِي الْفِتْيَانَ، وَالْنَبِيذُ الْعَذَارَى" أي جسد ودم يسوع، بذلهما في "يومه" على الصليب حيث تجلّى "الحب الأعظم" فكان العهد الجديد "وَبِدَمِ عَهْدِكِ أَنْتِ أَيْضًا أَطْلِقُ أَسْرَاكِ مِنَ الْجُبِّ الَّذِي لا مَاءَ فِيهِ".
ما يُسعد الإنسان هو العطاء وما يُجمّله هو بذل النفس في سبيل الآخرين.
مَن سار في هذا الموكب "يُصبح شريكاً في النعمة" يخوض معركة الحياة منتصراً في الدفاع عن "إنجيل الحياة وتثبيته" في القلوب والنفوس حيث تتفجّر النعم من "أَحْشَاءِ المَسِيحِ يَسُوع" فتَزْدَاد "المَحَبَّة أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ في كُلِّ فَهْمٍ ومَعْرِفَة"..
اليوم يدخل يسوع إلى مدينة كلّ منّا "فتياناً وعذارى" لندخل في موكبه نحن أيضاً "في أحشائه" ونستقبله كشعبٍ له "جسده السرّي" القادم من جهات العالم الأربع "أَنْقِيَاءَ وبِغَيْرِ عِثَارٍ" نفرش أمامه "ثمر البرّ.. لِمَجْدِ اللهِ ومَدْحِهِ".. منشدين مع النبي زكريّا "اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا بِنَتَ صِهْيَوْنَ وٱهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ آتِيًا إِلَيْكِ بارًّا مُخلِّصًا وَضِيعًا رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ٱبْنِ أَتَانٍ". آمــــــــــــين.