كان أبي إذا دخل غرفتي ووجد المصباح مضاءاً أو المروحة شغّالة وأنا خارجها قال لي : لِمَ لا تطفئه ولِمَ كل هذا الهدر في الكهرباء ؟؟؟
إذا دخل الحمّام ووجد الصنبور يقطر ماءً قال بعلوّ صوته لِمَ لا تحكم غلق الصنبور قبل خروجك ولِمَ كل هذا الهدر في المياه؟؟؟
دائماً ما ينتقدني ويتَّهمني بالسلبيَّة !!!
يُعاتب على الصغيرة والكبيرة !!!
حتّى وهو على فراش المرض !!!
إلى أن جاء يوم وجدت وظيفة.
اليوم الَّذي لطالما أنتظره.
اليوم سأجري المقابلة الشخصيَّة الأولى في حياتي للحصول على وظيفة مرموقة في إحدى الشركات الكبرى.
وإن تمّ قبولي فسأترك هذا البيت الكئيب إلى غير رجعة وسأرتاح من أبي وتوبيخه الدائم لي.
إستيقظتُ في الصباح الباكر وإستحممتُ ولبستُ أجمل الثياب وتعطَّرتُ وهممتُ بالخروج فإذا بيدٍ تُربِّتُ على كتفي عند الباب.
إلتفتُّ فوجدتُ أبي متبسماً رغم ذبول عينيه وظهور أعراض المرض جليَّة على وجهه.
وناولني بعض النقود وقال لي أريدك أن تكون إيجابيًّا واثقاً من نفسك ولا تهتزّ أمام أي سؤال.
تقبَّلتُ النصيحة على مضض وإبتسمتُ وأنا أتأفّف من داخلي، حتّى في هذه اللحظات لا يكفّ عن النصائح وكأنَّه يتعمَّد تعكير مزاجي في أسعد لحظات حياتي.
خرجتُ من البيت مُسرعاً وإستأجرت سيَّارة أُجرة وتوجَّهتُ إلى الشركة.
وما إن وصلتُ ودخلتُ من بوّابة الشركة حتّى تعجَّبتُ كلّ العجب !!!
فلم يكن هناك حرّاس عند الباب ولا موظَّفو إستقبال سوى لوحات إرشاديَّة تقود إلى مكان المقابلة.
وبمجرَّد أن دخلتُ من الباب لاحظتُ أنَّ مقبض الباب قد خرج من مكانه وأصبح عرضة للكسر إن إصطدم به أحد.
فتذكَّرتُ نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل بأن أكون إيجابيًّا فقمتُ على الفور بردّ مقبض الباب إلى مكانه وأحكمته جيِّداً.
ثمّ تتبَّعتُ اللوحات الإرشاديَّة ومررتُ بحديقة الشركة فوجدتُ الممرّات غارقة بالمياه الَّتي كانت تطفو من أحد الأحواض الذي إمتلأ بالماء إلى آخره.
وقد بدا أنّ البستانيّ قد إنشغل عنه.
فتذكَّرتُ تعنيف أبي لي على هدر المياه فقمتُ بسحب خرطوم المياه من الحوض الممتلئ ووضعته في حوض آخر مع تقليل ضخّ الصنبور حتّى لا يمتلئ بسرعة إلى حين عودة البستانيّ.
ثمّ دخلتُ مبنى الشركة متتبِّعاً اللوحات وخلال صعودي على الدرج لاحظتُ الكمّ الهائل من مصابيح الإنارة المضاءة ونحن في وضح النهار فقمتُ لا إراديًّا بإطفائها خوفاً من صراخ أبي الَّذي كان يصدح في أذني أينما ذهبتُ.
إلى أن وصلتُ إلى الدور العلويّ ففوجئتُ بالعدد الكبير من المتقدِّمين لهذه الوظيفة.
قمتُ بتسجيل إسمي في قائمة المتقدِّمين وجلستُ أنتظر دوري وأنا أتمعَّن في وجوه الحاضرين وملابسهم لدرجة جعلتني أشعر بالدونيَّة من ملابسي وهيئتي أمام ما رأيته.
والبعض يتباهى بشهاداته الحاصل عليها من الجامعات الأمريكيَّة.
ثمَّ لاحظتُ أنّ كلّ من يدخل المقابلة لا يلبث إلَّا أن يخرج في أقلّ من دقيقة.
فقلتُ في نفسي إن كان هؤلاء بأناقتهم وشهاداتهم قد تمّ رفضهم فهل سأُقبَل أنا ؟؟؟!!!
فهممتُ بالإنسحاب والخروج من هذه المنافسة الخاسرة بكرامتي قبل أن يُقال لي نعتذر منك.
وبالفعل إنتفضتُ من مكاني وهممتُ بالخروج فإذا بالموظَّف ينادي على إسمي للدخول.
فقلت سأدخل وأمري إلى الله.
دخلتُ غرفة المقابلة وجلستُ على الكرسي في مقابل ثلاثة أشخاص نظروا إليَّ وإبتسموا إبتسامة عريضة ثمّ قال أحدهم متى تحب أن تستلم الوظيفة ؟؟؟
فذُهلتُ لوهلة وظننتُ أنَّهم يسخرون منّي أو أنَّه أحد أسئلة المقابلة ووراء هذا السؤال ما وراءه.
فتذكَّرت نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل بألَّا أهتزّ وأن أكون واثقاً من نفسي.
فأجبتهم بكلّ ثقة : بعد أن أجتاز الإختبار بنجاح إن شاء الله.
فقال آخر لقد نجحتَ في الإمتحان وإنتهى الأمر.
فقلتُ : ولكن أحداً منكم لم يسألني سؤالاً واحداً !!!
فقال الثالث نحن ندركُ جيِّداً أنَّه من خلال طرح الأسئلة فقط لن نستطيع تقييم مهارات أيّ من المتقدِّمين.
ولِذا قرَّرنا أن يكون تقييمنا للشخص عملِيَّا فصممنا مجموعة إختبارات عمليَّة تكشف لنا سلوك المتقدِّم ومدى الإيجابيَّة الَّتي يتمتَّع بها ومدى حرصه على مقدِّرات الشركة، فكنتَ أنت الشخص الوحيد الَّذي سعى لإصلاح كلّ عيب تعمَّدنا وضعه في طريق كلّ متقدِّم، وقد تمّ توثيق ذلك من خلال كاميرات مراقبة وُضِعَت في كلّ أروقة الشركة.
يقول صاحبي ...
حينها فقط إختفت كلّ الوجوه أمام عينيّ ونسيتُ الوظيفة والمقابلة وكلّ شيء ولم أعُد أرى إلَّا صورة أبي !!!
ذلك الباب الكبير الَّذي ظاهره القسوة ولكن باطنه الرحمة والمودَّة والحب والحنان والطمأنينة.
شعرتُ برغبة جامحة في العودة إلى البيت والإنكفاء لتقبيل يديه وقدميه.
إشتقت إلى سماع صوته و موسيقى صراخه تطرب أذني.
لماذا لم أرَ أبي من قبل؟؟؟
كيف عُمُيت عيناي عنه ؟؟؟
عن العطاء بلا مقابل ...
عن الحنان بلا حدود ...
عن الإجابة بلا سؤال ...
عن النصيحة بلا إستشارة ...
تمنَّيتُ لو ركبتُ بساط الريح لأعود إلى بيتي وأحتفل معه بفوزي بالوظيفة الجديدة.
تركتُ لهم ملفًّا كاملاً يحوي شهادتي وخرجتُ مُسرعاً وخطواتي تسابق بعضها بعضاً للِّحاق بقلبي الَّذي سبقني فَرِحاً إلى البيت.
وما إن وقفتُ عند أوَّل الشارع حتّى رأيتُ إزدحاماً أمام عمارتنا !!!