شاء الله أن يخلق الإنسان بدافع محبَّته وصلاحه وأيضاً أراد أن يكون الإنسان كائناً عاملاً، حرًّا، حكيماً، صالحاً، مُمَجَّداً، بإختصار أراده إلهاً صغيراً مخلوقاً، وإنساناً متألِّهاً، لذلك خلقه على صورته ومثاله.
آباء الكنيسة متَّفقون على وجود علاقة ما، بين الإنسان والله، على ضوء حقيقة خلق الإنسان على صورة الله ومثاله.
لهذا ينطلق القدّيس غريغوريوس النيصصي ممَّا كشفه الوحي الإلهيّ لنا عن الله، ومنه يصل إلى إكتشاف ما هو في الإنسان، إلى الصورة الإلهيّة المطبوع بها.
وهذا الأسلوب اللاهوتي لمعرفة الإنسان (الأنثربولوجيا).
هل الصورة الإلهيّة في الإنسان تشمل كلَّ الإنسان – الروح والجسد – كما يعتقد القدّيس إيريناوس والنيصصي وبالاماس ؟ إذ يقول هؤلاء الآباء :
ليس فقط الروح ولكن أيضاً الجسد يشترك في الصورة الإلهيّة في الإنسان.
لأنه بجملته مخلوق على صورة الله، إنَّ يسوع هو النموذج الَّذي خلق عليه شخص الإنسان، ولا تجزئة في كيانه الداخلي.
كلَّ الإنسان يتَّجه نحو كلّ الله ، لأنَّه كلّ الصورة التي خلق على نموذجها.
الله يطلب من الإنسان أن يصبح متألِّها، مشاركاً في حياة الله.
وبالتالي يمتدّ التجديد إلى كامل الإنسان :
"هوَّذا الكلّ قد صار جديداً". (كورنثوس الثانية : ٥ – ١٧)
الله لا يطلب من أن أكرس له جزءاً من ذاتي أو أجزاء من حياتي.
هو يريدني بكلِّيَّتي، هو لم يبخل عليَّ بشيء.
لقد أخلى ذاته إخلاءً كاملاً، وأطاع حتّى الموت، لذلك نسمعه يطلب القلب : "يا بني أعطني قلبك" لأنّ القلب هو مركز كلّ كيان الإنسان.
لذلك الإنسان كائن يحمل في داخله نعمة إلهيْة، من روح الله وهذه النعمة هي الَّتي تدفعه للمشاركة، لا مع الله فقط، بل مع الملائكة، ومع أخيه الإنسان.
الإنسان خلق كي يشارك الله في حياته الإلهيّة كي يصبح "شريكاً للطبيعة الإلهيّة"
(بطرس الثانية : ١ – ٤)
خُلِقَ الإنسان كي يصير إلهاً بالنعمة الإلهيّة، لا بالجهد البشريّ وحده.
الله صالح وأراد أن يشاركه الإنسان هذا الصلاح.
وهو لم يخلقه إلَّا لأنَّه صالح.
إذاً، الإنسان مدعو ليعيد وحدة الطبيعتين بالنعمة، في شخصه المخلوق ليصبح "إلهاً مخلوق، وإلهاً بالنعمة" عكس المسيح الَّذي هو شخص إلهيّ قد ضمّ إليه طبيعة بشريّة.
الإنسان كما يقول القدّيس باسيليوس الكبير : هو خليقة نالت أمراً لتصبح إلهاً.
الله لم يخلق الإنسان كي يموت، كي يفنى، بل أراده كائناً يحيا إلى الأبد مثل الله، كي يشاركه حياته الإلهيّة.
فالإنسان لا ينتهي بموته الجسديّ، ولا يفنى ولا يزول.
إنّه خليقة خُلِقت لتبقى وتحيا إلى الأبد.
فإن كان الإنسان ذا بداية، لأنَّه مخلوق، فهو بلا نهاية.