كانت ليلةً باردة قارصة في شمال ولاية فرجينيا منذ سنوات عديدة سالفة.
وكانت لحية الرجل العجوز تلمع من الصقيع المتجمِّد في فصل الشتاء ذاك العام، بينما كان ينتظر أية مركبة تعبُر به الجسر فوق النهر.
ويبدو أنّ إنتظار هذا الرجل قد طال دون نهاية، ما جعل جسده شِبْه مخدَّر حتى كـاد أن يتصلَّب من الرياح الشمالية المتجمِّدة.
وإذا به يسمع صوتاً خافتاً، بإيقاع ثابت من حوافر تقترب وهي تركض على طول الطريق المتجمِّد.
وبفارغ الصبر، كان يُشاهد عدّة فرسان يمتطون الخيل ويعبُرون المنعطف.
وترك أول فارس يعبُر دون محاولة لِلَفت إنتباهه.
ومن بعده عَبَرَ فارس آخر، وثالث، ولم يُبْدِ الشيخ أية محاولة لِلَفت إنتباههم إليه.
وأخيراً، عَبَرَ فارس آخر بالقُرب من البقعة التي يقبع فيها الرجل العجوز الذي كان يبدو وكأنه صار تمثالاً من جليد!
وإذ إقترب منه هذا الفارس الأخير، نادَى عليه الشيخ العجوز، قائلاً :
- ”يا سيّدي، هل تُمانع في منح رجل عجوز فرصة للركوب، لأَعبُر إلى الجانب الآخر؟ لأنه لا يبدو أن هناك طريقاً أَعبُر عليه سيراً على الأقدام“.
وكبح الفارس جماح حصانه، وأجاب:
- ”بـالتأكيد، هَلُمَّ أقفـز ورائي على ظهر الحصان“.
ولكن إذ رأى الفارس أنَّ الرجل المُسنَّ لم يتمكَّن من رفع جسمه نصف المُجمَّد من الأرض، نزل من على ظهر حصانه، وساعَد الرجل العجوز على إمتطاء ظهر الحصان.
وأَخذَ الفارسُ الرجلَ العجوز، ليس فقط ليعبُر به النهر، ولكنه أوصله إلى وجهته التي هو ذاهبٌ إليها، والتي كانت على بُعد مسافة بضعة أميال.
وحين إقترابهما مـن الكوخ الصغير، ولكـن اللطيف، إضطرّ الفارس أن يُعبِّر عن فضوله ما كان سبباً له للإستفسار من الشيخ:
- ”سيّدي، لقد لاحظتُ أنّك تركتَ عدَّة فرسان آخرين قبلي يَعبُرون أمامك من دون بذل أي جهد لتأمين ركوبك مع أحدهم، وهذا ما خطر على بالي أن أسألك فيه: لماذا في مثل هذا الشتاء القارص إنتظرتَ أنت ولم تطلب الركوب مِمَّن عبروا قبلي، ولكنك على الفور طلبتَ مني أنا آخر مَن عَبَرَ؟ ماذا كان سيحدث لو أني رفضتُ وتركتك هناك“؟
ونزل الرجل الشيخ ببطء من على صهوة الحصان، ونظر إلى الفارس مباشرة في عينيه، وأجاب:
- ”إنّي أعيش في هذه المناطق ردحاً من الزمـن، وأعتقد أنّي أَعلَمُ بـالناس الذيـن فيها جيداً جداً“.
وواصل الشيخ كلامه قائلاً :
- ”لقد كنتُ أنظر في عيون الفرسان الأوَّلين، ورأيتُ على الفور أنه لم يكن يوجد لدى أي واحد منهم أي إهتمام بحالتي الحرجة.
فكان الأمر سيكون عديم الفائدة لو أني كنتُ قد طلبتُ منهم الركوب.
ولكنّي عندما نظرتُ إلى عينيك، يا سيّدي، كان واضحاً فيهما العطف والرحمة.
وهكذا عرفتُ، على الفور، أن روحك المُهذَّبة ستُرحب بالفرصة لمدِّ يد المعونة في وقت حاجتي“.
ولَمَسَت هذه التعليقات الحميمة شغاف قلب الفارس بعُمْق، وردَّ عليه:
- ”أنا مُمتنٌّ أكثر ما يمكن لِمَا قُلتَه“.
ثمّ إستطرد في كلامه للرجل الطاعن في العمر قائلاً :
- ”وليتني لا أنشغل أبداً بشؤوني الخاصة حتى يمكنني أن أستجيب لإحتياجات الآخرين بكل اللُّطف والرحمة“.
وبعد هذه الكلمات، قاد ”توماس جيفرسون“، الرئيس الثالث للولايـات المتحدة الأمريكية (أواخر القرن الثامن عشر) حصانـه إلى الوراء، مُستأنفاً طريق عودته إلى البيت الأبيض في واشنطن!
+ «لأن الحُكْم هو بلا رحمة لمَن لم يعمل رحمـةً، والرحمـة تفتخر على الحُكْـم» (يع ٢: ١٣).
+ «وأما الحكمةُ التي من فوق فهي أولاً طاهرةٌ، ثم مُسالِمةٌ، مُتَرَفِّقةٌ، مُذعِنَةٌ، مملوَّةٌ رحمةً وأثماراً صالحـة، عديمةُ الرَّيب والريـاء. وثمرُ البرِّ يُـزرَع في السلام من الذين يفعلون السلام» (يع ٣: ١٧ - ١٨).
+ «مشتركين في احتياجات القدِّيسين... مُعتنين بـأمورٍ حسنـة قـدَّام جميع الناس» (رو ١٢: ١٣ - ١٧).
+ «ليكن كلُّ واحد بحسب ما أخذ موهبةً، يخدم بها بعضكم بعضاً، كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة. إنْ كان يتكلَّم أحدٌ فكأقوال الله. وإنْ كان يخدم أحدٌ فكأنه من قوة يمنحها الله، لكي يتمجَّد الله في كـل شيء بيسوع المسيح...» (١ بط ٤: ١٠ - ١١).