كثيرًا ما سمعنا في أثناء الحرب الأهليّة وبعد تلك الحرب المشؤومة الأحزابَ المسيحيّة تُعلِن أنّها تحارب من أجل حماية "المجتمع المسيحيّ" والحفاظ عليه. ولكنّ الذي يريد أن يحميَ المجتمعَ المسيحيّ ويحافظَ عليه يجب أن يتحلّى بروح المسيح.
والحال أنّ ما شاهدناه لدى الأحزاب المسيحيّة في أثناء الحرب الأهليّة ولا نزال نشاهده إلى الآن بعيدٌ كلَّ البعد عن الروح المسيحيّة.
فالروح المسيحيّة تتميَّز بالمحبة والمغفرة: محبّةٍ بلا حدود، ومغفرةٍ بلا قيدٍ ولا شرط.
كما أنّها ترتكز على كرامة الإنسان وحرّيّته لكونه خُلِق على صورة الله ومثاله.
يقول بولس الرسول: "فأنتم، أيّها الإخوة، إنّما دُعيتم إلى الحريّة".
ثمّ يُضيف: "ولكن، لا تجعلوا هذه الحريّةَ فرصةً للجسد؛ بل كونوا بالمحبّة خدّامًا بعضُكم لبعض.
لأنّ الناموسَ كلَّه يُتمَّم في هذه الوصيّة الواحدة: ’أحبِبْ قريبكَ كنفسكَ‘. فإذا كنتم تنهشون وتأكلون بعضُكم بعضًا، فاحذروا أن تُفنوا بعضُكم بعضًا" (غلاطية 13:5-15).
ماذا يجري بين الأحزاب المسيحيّة اليوم؟
ما نراه أقلّ ما يُقال فيه إنّه انعدامٌ للمحبّة: تحقيرٌ وتخوينٌ للآخرين، وشتائم متبادلة. فبدل أن تعملَ الأحزاب المسيحيّة على أن يكونوا، كما يقول بولس الرسول، "خدّامًا بعضُهم لبعض" وخدّامًا لسائر المسيحيّين، نراهم خدّامًا لمطامعهم الشخصيّة.
"فينهشون ويأكلون بعضُهم بعضًا".
والنتيجة التي حذّر منها بولس الرسول أنّهم "يُفنون بعضُهم بعضًا".
فكم من مسيحيٍّ قُتِل على يد إخوته المسيحيّين! وكم من مسيحيٍّ، بسبب هذه العداوة بين الأحزاب المسيحيّة، فقد الأملَ من وجوده في لبنان، وراح يبحث عن وطنٍ يحترم كرامتَه ويؤمّن له السلامةَ والاستقرار.
إنّ المسيحيّين الذين هاجروا لبنان في أثناء الحرب الأهليّة يُحصى عددُهم بمئات الآلاف.
والذين هاجروا في هذه السنوات الأخيرة ولا يزالون يهاجرون يُحصى أيضًا عددهم بمئات الآلاف. ليس هكذا يتمّ الحفاظ على الوجود المسيحيّ.
إنّ لبنان الكبير قد أراده مؤسٍّسوه معقلًا للحريّة والسيادة والاستقلال، ونموذجًا للعيش المشترَك بين المسيحيّين والمسلمين، ورسالةً للشرق والغرب يتميّز بها، بحسب وصيّة البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني.
فإذا راح عدد المسيحيّين يتقلّص تدريجيًّا، فالخوف كبيرٌ من أن يفقدَ لبنان هذه الرسالة، فلا تعودَ ثمّةَ ضرورةٌ ولا حاجةً لوجوده.
إنّ الحفاظَ على الوجود المسيحيّ في لبنان أمرٌ لا بدَّ منه ليتمكّنَ لبنان من أداء رسالته.
وهذه المسؤوليّة تقع، أوّلاً ومن دون شكّ، على الكنائس المسيحيّة وعلى رؤسائها.
ولكن مهما عمل هؤلاء في كنائسهم ومدارسهم ومؤسَّساتهم الاجتماعيّة، فإذا لم تتّفق الأحزاب المسيحيّة بعضُها مع بعض، وبقيتْ "تنهش وتأكل بعضها البعض"، يذهب عَبَثًا عمل الكنائس، وتستمرّ هجرة المسيحيّين، ولا سيّما الشباب منهم، ويستمرّ إفراغ البلد من الوجود المسيحيّ، وتزول رسالة لبنان.
أين وعيُكم يا رؤساءَ الأحزاب المسيحيّة؟
عندما رأى بولس الرسول أنّ ثمّة خصوماتٍ ومنازعاتٍ بين المسيحييّن في مدينة كورنثس، كتب لهم قائلاً: "وأطلب منكم، أيّها الإخوة، باسم ربّنا يسوع المسيح، أن تكونوا جميعُكم على قولٍ واحدٍ، ولا يكون في ما بينكم شقاقات، بل تكونوا ملتئمين بفكرٍ واحدٍ ورأيٍ واحدٍ.
فلقد بلغني عنكم أنّ بينكم خصومات.
أعني بذلك أنّ كلَّ واحدٍ منكم يقول: ’أنا لبولس!‘ – ’أنا لأبلُّس!‘ – ’أنا لكيفا!‘ (أي لبطرس) – ’أنا للمسيح!‘ هل تجزّأ المسيح؟ أَلَعلَّ بولسَ قد صُلِب لأجلكم؟ أباسم بولس قد اعتمَدْتم؟" (١ كورنثس ١٠:١-١٣).
إنّ روحَ الوحدة والتضامن بين المسيحيّين يجب أن ينعكسَ على الوحدة والتضامن في عملهم السياسيّ، وإلاّ يكون إيمانهم باطلاً، بحسب قول القديس يعقوب في رسالته الجامعة: "فالإيمان، إنْ خلا من الأعمال، ميْتٌ في ذاته" (يعقوب ١٧:٢).
فالمسيحيّ لا يكون مسيحيًّا فقط في صلاته في الكنيسة، بل أيضًا في عمله خارج الكنيسة سواءٌ في المجال الإجتماعيّ أم في الميدان السياسيّ، حيث يجب أن يتّسمَ هذا العمل بروح المحبّة والخدمة.
الديمُقراطيّة أمرٌ لا بدّ منه، والحريّةَ أمرٌ لا بدَّ منه.
لكن لا ينبغي أن يجعلَ المسيحيّون من الديمُقراطيّة والحريّة، كما يقول بولس الرسول، "فرصةً للجسد"، أي مناسبةً للأنانيّة ووضع المصلحة الشخصيّة فوق مصلحة الوطن، وسبيلاً لسيطرة الخير الخاصّ على خير سائر المواطنين.
في لبنان اليوم مشهدٌ سورياليّ: الشعب جائع، والدواء مفقود، والعملة الوطنيّة تتدهور يومًا بعد يوم، والشباب على باب السفارات طلبًا للهجرة، ولا تزال الأحزاب المسيحيّة، بعد أربعة أشهرٍ من شغور الكرسيّ الرئاسيّ، عاجزةً عن الاتّفاق على اسمٍ يرشّحونه معًا لرئاسة الجمهوريّة، ويعرضونه على زملائهم من الطوائف الأخرى، وذلك بسبب تمسُّك كلٌّ منهم بمصالحه الخاصّة.
ويدّعون أنّهم يحافظون على المجتمع المسيحيّ! متى يُدرك هؤلاء المسؤولون الذين انتخبهم الشعب ليؤمّنوا له العيشَ الكريمَ خطورةَ المسؤوليّة الملقاة على عاتقهم، وأنّه لا يمكنهم الحفاظ على الحضور المسيحيّ في لبنان والإسهام في تعزيز الوحدة الوطنيّة مع سائر مكوِّنات الوطن إلاّ بمحبّتهم بعضهم لبعض وتضامنهم بعضهم مع بعض؟
/المطران كيرلس سليم بسترس/
السبت ٢٥ شباط ٢٠٢٣