في شهر تموز، شهر مار شربل، نتوقَّف في محطة مهمّة من مسيرة العيلة لنسأل أنفسنا ماذا عساه يقول لنا مار شربل اليوم؟
في عصر التكنولوجيا والعولَمة والتطوُّر السريع للبشرية ماذا يمكن أن يقول لنا راهب حبيس من العصر الماضي؟
طبعاً إن مار شربل مِثلَ كلّ قديس يدعونا لنلبِّي دعوة الله لنا للقداسة، كما لبَّاها هو بالإقتداء بالمسيح واتِّباع تعاليمه والشهادة له.
ولكن هل نستطيع في زمننا الحاضر تلبية هذه الدعوة على طريقة مار شربل؟
هو الراهب الحبيس الذي عاش نذوره الرهبانيَّة بجديَّة مطلقة وتفانٍ كبير.
وماذا تعني لنا هذه النذور في عالم اليوم نحن العلمانيين؟
إنَّ الإنسان هو جَبْلة تراب تعيش ملتصقة بالأرض، مشدودة بإستمرار نحو التراب وهي تتوق إلى الله وملكوته بواسطة روحه القدُّوس، الذي يعطيها الحياة. ويعيش الإنسان في صراع بين ما يشدُّه إلى التراب وما يشدُّه إلى السّماء.
إنَّ ما يشدُّنا إلى الأرض ويجعلنا نلتصق بها هم ثلاثة أمور:
المقتنيات والممتلكات التي نسعى دائماً للمحافظة عليها والحصول عليها وزيادتها، وكثيراً ما تمتلكنا هي ونصبح خدَّاماً لما نملك بدل أن نكون أسياداً عليهم. فتجعلنا هذه المقتنيات نلتصق بالعالم ونغوص فيه.
التعلُّق العاطفي بالأشخاص والأشياء والعادات، الذي يشدُّنا إلى العالم ويجعلنا أيضاً نلتصق به ونتعلَّق به مفضّلينه في كثيرٍ من الأحيان على ملكوت الله والحياة الأبديّة.
فخر الحياة وعزَّة النفس الذي يجعلنا نتوق إلى المواقع الإجتماعيّة والمراكز والوجاهة، لنأخذ مكاناً منظوراً مرموقاً في هذا العالم وبين الناس، على حساب سعينا إلى مكان في ملكوت الله. فنتعلَّق بحضورنا بين الناس وفي المجتمع ونلتصق أكثر بهذه الأرض.
فهذه الأمور الثلاثة تشدّ الإنسان إلى الأرض وتبعده إذا تفاقمت عن ملكوت الله وتُعيق تحقيقه لقداسته.
نجد هنا أنَّ النذور الرهبانيَّة التي عاشها مار شربل والتزم بها هي الحلّ لهذه الأمور وهي التي تحرِّرُنا لتُنمّي بداخلنا ملكوت الله والحياة الأبديَّة.
فالفقر يحرِّرُنا من الممتلكات والمقتنيات وإذا وُجدت فهو يجعلنا أسياداً عليها لا عبيداً لها نضعها في خدمة الإنسان بدل أن تُبعدنا عنه ونجعلها أدوات لقداستنا بدل أن تكون أهدافاً نعيش من أجلها.
والعفَّة تحرِّرُنا من التعلُّق العاطفي بالأشخاص والأشياء، وهي تعني عفَّة الحواس جميعها: النظر والسمع والذوق والشم واللمس، وكذلك عفَّة الِّلسان، فنسخِّر حواسنا جميعها للخدمة والقداسة ونقول فقط الكلام الذي يبني ونتجنَّب الثرثرة والكلام الفارغ ونُخضِع حواسنا لعيش الإنجيل والمحبَّة، بدل أن نَغرق في ملذَّات هذا العالم.
والتواضع ينزع من داخلنا حبّ الظهور والسعي إلى مجد هذا العالم، فيكون تركيزنا على مكانتنا في السّماء بدل عن مركزنا في هذا العالم وإذا وُجد، فنُسخِّر موقعنا ومركزنا في هذا العالم لخدمة الملكوت وليس لخدمة ذاتنا.
فالفقر والعفَّة والطاعة إذاً هي ليست فقط نذوراً خاصة بالرهبان، بل هي موجبة وحتميَّة لكلّ إنسان يريد إتِّباع المسيح والإقتداء به. ليست القداسة حكراً على الرهبان الذين ينذرون هذه النذور، بل هي دعوة لكلّ إنسان.
إنَّ هذه النذور هي المرتكزات التي تجعلنا نقتدي بالمسيح.
فروحيّة الإنجيل هي الفقر والعفَّة والطاعة وإذا أردنا الإقتداء بالمسيح فلا بُدَّ من إلتزامنا بها. فالمسيح هو الفقير والعفيف الذي يعيش الطاعة المطلقة للآب.
طبعاً إنَّه لأمرٌ صعب أن نعيش هذه النذور في عالمنا اليوم ولكن لا يوجد هناك طريقٌ آخر.
فالطريق هو المسيح. والأكيد أنَّنا لا نستطيع عيش هذه النذور ببطولاتنا الشخصيَّة، بل بعمل الروح القدس فينا.
فالربّ هو الذي يُقدِّسنا عندما نسلِّم ذواتنا لعمله فينا فيجعلنا بقوَّة روحه أقوياء، نستطيع التغلُّب فيه على طبيعتنا الترابيَّة، وتعلُّقنا بالأرض، فيرفعنا الله إلى الحياة الإلهيَّة الأبديَّة.
نتأمَّل هذا الشهر بحياة مار شربل قدِّيسنا وبيّ عيلتنا ونعيد النظر على ضوء تأمُّلنا هذا، بمسلكنا بهذا العالم وهذه الحياة. لنصوِّب إتِّجاهنا ونُصحِّح مسارنا ونعيش التوبة الصادقة ونعيد تجديد إلتزامنا بمسيرتنا لتلبية دعوة الله لنا للقداسة بقوَّة روحه القدُّوس مقتدين بالربّ يسوع بشفاعة وصلاة القديس شربل.
ونجدِّد إنطلاقتنا إلى هذا العالم بعزمٍ وفرح وشجاعة، رسلاً للمحبَّة، شهوداً للمسيح، زارعين للرجاء، صانعين للسلام، مبتعدين عن كلّ ما يُبعدنا عن الله ومتعلِّقين بكلّ ما يُقرِّبنا منه.
من إختبارات ريمون ناضر مع القديس شربل: "الله محبّة. الله حقيقة. الله هو المحبّة الحقيقيّة. عالم الله هو عالم المحبّة، هو عالم الحقيقة ولا حقيقة خارج المحبّة. لا يحقّق الإنسان ذاته إلاّ بالمحبّة، ولا يدرك الإنسان الحقيقة إلاّ في عالم الله. الإنسان ينتمي إلى الله، هو إبن المحبّة، ابن الله وموطنه الحقيقيّ: عالم الله."
صلاة :
يا شربل يا أبانا القديس، من يَقبلُ من يديك التكريس، كرّسنا اقبلنا عيلتك، قدّسنا اجبلنا جبلتك، آباءً أمّهات رهباناً راهبات. بارك يا ربّ كلّ أمّ وأب، كلّ طفلٍ كلّ شابة وشب، ربّنا زدنا إيماناً، إستجب واشفِ مرضانا، واجمع بالقديسين موتانا المؤمنين.