تتبعها الدينونة العامة ، فالإنسان لا ينال جزاءه بعد الموت مباشرة ، لأنّ الجسد يكون وقتذاك في القبر، ويتحوّل بالوقت إلى تراب.
+ ولكن في القيامة ، حينما يقوم الجسد وتتّحد به الروح ، يمكن حينئذ أن يبدأ الحساب للإنسان بكامل تكوينه جسدًا وروحًا ، وذلك لأنّ ما فعله الإنسان من خير وشر، إشترك فيه الجسد والروح معًا.
+ وهكذا شاء الله أن يكون الحساب أو الدينونة بعد القيامة العامة، حينما تتّحد الأرواح بالأجساد، ويكون الحساب أيضًا لكلّ البشر معًا.
+ كلّ شيء مسجّل أمام الله، وسوف يعلن في يوم الحساب، وسوف يُعرف من الكلّ .. كلّ أفعال الناس، وكلّ أفكارهم وأقوالهم ونيّاتهم وأحاسيسهم، الخفيّات والظاهرات.
ولذلك صدق ذلك الأديب الروحيّ الَّذي قال "فكّر كما لو كانت أفكارك مكتوبة على سحاب السماء بحروف من نور، وإنها كذلك.."
+ الناس حينما يموتون، يتركون أموالهم وأملاكهم، وأقاربهم ومعارفهم. ويفارقون الكل. ولكن الشيء الَّذي لا يفارقهم هو أعمالهم. لأن أعمالهم تتبعهم.
+ تلصق بهم كل أخطائهم، بكل صورها، وكل تفاصيلها، وكل بشاعتها، فتقلق قلوبهم ، وتتعب أفكارهم.. وفي يوم الدينونة العامة يجدون كل ذلك أمامهم.
فيكونون مدانين أمام أنفسهم، لا ينفعهم عذر ولا تبرير.
لا يمحو هذه الخطايا والآثام سوى التوبة الصادقة الحقيقيّة.
+ فالخطأ الذي تاب عنه الإنسان توبة قلبيّة بغير رجعة، هذا تدركه مراحم الله الواسعة ومغفرته للتائبين.
+ والتوبة الحقيقيّة ليست مجرّد ترك الخطيئة. فقط يتركها الإنسان من حيث الفعل والممارسة ، ولكن يستمر يشتهيها في قلبه، ويقبلها في فكره. أما التوبة الحقيقيّة فهي كراهية الخطيئة قلبًا وفعلًا ... بكراهية الخطيئة وعدم إقترافها، يستحق الإنسان المغفرة، ولا تُحسب عليه خطاياه في يوم الدين.
ويبقى للتوبة شرط آخر، وهو معالجة نتائج الخطايا.
+ فمثلًا لا يقل الظالم "لقد تبت، وما عدت أظلم أحدًا، بل صرت أكره الظلم" هذا لا يكفى، لأنّه خاص فقط بالحاضر والمستقبل.
+ ولكن ماذا عن الماضي، وعن حال المظلومين الذين لا يزالون يقاسون من نتائج ظلمه؟ عليه أن يعالج هذه النتائج بكل ما يستطيع من قدرة وإن كان قد سرق من أحد شيئًا، عليه أن يرده إلى صاحبه. وإن كان قد أساء إلى سمعة إنسان، عليه أن يصلح ذلك ويردّ إليه إعتباره.
هنا يقف أمامنا سؤال قد يكون محيّرًا، وهو: ماذا عن القاتل، وهو لا يستطيع أن يصلح ما فعله؟
+ والجواب هو أنّه إذا أخذ عقوبة على الأرض، وقبلها برضى وبشعور أنه مستحق للعقوبة.. فإنه يستريح من عقوبة في يوم الدينونة الرهيب.
+ الإنسان في يوم الدينونة ينال عقوبة على الخطايا التي لم يتب عنها، والخطايا التي لم ينل عنها عقوبة على الأرض.
+ إمّا لأنّها كانت خطايا في الخفاء لم يعرفها أحد عنه، أو لم تثبت أدلّة عليه، أو أمسك فيها أحد غيره ظلمًا.
+ وفي هذه الحالة يعاقبه الله على خطيئتين: الخطيئة التي إرتكبها، يضاف إليها تركه لغيره يعاقب ظلم على ما إقترفه هو من إثم، دون أن ينقذه بإعترافه.
+ ومن الخطايا الخفيّة أيضًا: النيّات والأفكار والمشاعر. وهذه كلّها ينبغي أن تدركها التوبة لتمحوها، مع الجهاد الروحيّ لتنقية القلب والفكر.
+ ومن الخطايا الَّتي تتعب الإنسان أيضًا في يوم الحساب، وهنا أيضًا على الأرض، أن يوقع غيره في خطيئة ، ويتسبّب في إفساده. ثمّ يتوب هو، ويبقى هذا الغير في الخطيئة والفساد، دون أن يقدر على إرجاعه.
+ وفي يوم الحساب، لا يُعاقب الإنسان فقط على ما فعله من شرّ، وإنّما أيضًا على ما كان بإمكانه أن يفعله من الخير ولم يفعله.
+ والكتاب المقدّس يقول في ذلك "من عرف أن يعمل حسنًا ولا يفعل، فتلك خطية له" (يع ٤: ١٧)
بل من الخطايا أيضًا: تأخير عمل الخير، أو تأخير أعطاء الحقوق لأصحابها.
ومن وصايا الكتاب في هذا الشأن :
+ "لا تمنع الخير عن أهله، حين يكون في طاقة يدك أن تفعله. لا تقل لصاحبك إذهب وعد فأعطيك غدًا، وموجود عندك" (ام ٣: ٢٧، ٢٨).