إنه الميلاد،
"اللهَ كَلَّمَ الآبَاءَ قَدِيْمًا في الأَنْبِيَاء، مَرَّاتٍ كَثِيرَة، وبأَنْواعٍ شَتَّى، وفي آخِرِ هذِهِ الأَيَّام، كَلَّمَنَا في الابْن، الَّذي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيء. وبِهِ أَنْشَأَ العَالَمِين".
في مطلع الرسالة إلى العبرانيين يختصر الكاتب الملهم حوالي ٢٠٠٠ سنة من الحراك "الدبلوماسي" بين الله والانسان، وبتعبير اكثر دقة، من الله بإتجاه الإنسان... هي الحقبة الفاصلة بين إبراهيم و يسوع.
الله، يُظهر ذاته لأناس يبحثون عنه.
لإبراهيم الذي أستضافه عندما استقبل الملائكة الثلاث...ليعقوب، الذي صارعه كملاك...لموسى الذي شاهده كنار في عليقة لا تحترق... وفِي حواره معه عندما سأله: من أنت؟ أجاب : "انا يهوى"، الذي يعني انا الآن، الكيان، الكائن، أو "هو الذي هو".
و إيليا الذي التقاه بصوت صمت هادئ...
ماذا يعني "نار في عليقة لا تشتعل"؟ ما هو تفسير "صوت صمتٍ هادئ"؟ هل يعقل ان هؤلاء رأوا الله ؟
هل يستطيع الجزء أن يرى الكل، وقطرة الماء أن تحتوي المحيط ؟ كما أن المجرة بعظمتها لا تقدر أن تصل إلى حدود الكون، هكذا سر الله المعلن أمام الجميع، يمكن للانسان أن يراه في كل شيء، اما أبعاده فلا أحد يستطيع احتواءها.
في الواقع أن هذه اللقاءات إنما هي اختبارات روحية شخصية و أحيانا جماعية، اختبارات حقيقة إنما لا يمكن إثباتها بالمنطق العلمي، هي لقاءات بدّلت وغيَّرت حياة الكثيرين على مرّ التاريخ إن كانوا أشخاصاً أو جماعات أو شعوب مؤمنة، إلا أنهم غير قادرين على التعبير عنها بشكل حسي، فهي تبقى بالنسبة إليهم اختبار وحلم جميلين. (كل الذين شاهدوا يسوع بعد القيامة اختبروا هذا النوع من المشاهدة).
الكتاب المقدس ليس كتابا وثائقيا يسرد التاريخ بالمعنى العلمي الحالي للكلمة. إنه في آن معا خبرة إيمان الجماعة و رسالة حقيقية (message ) محددة ودقيقة للغاية، موجهة من الله إلى كل إنسان بالمطلق، وبشكل خاص لك انت الآن بالتحديد.جوهر رسالة الميلاد تلخصه الاية ٤ و ٥ من الفصل ٦ لكتاب تثنية الاشتراع. وهي الآية التي استعملها يسوع ردا على السؤال عن أعظم الوصايا فكان جوابه: " اسمع يا اسرائيل اسمع يا اسرائيل.الرب الهنا رب واحد. فتحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك". وأضاف يسوع : " وأن تحب قريبك حبك لنفسك. على هاتين الوصيتين تقوم الشريعة كلها والانبياء". (متى ٢٢ / ٣٩).
يريد الله منذ البدء وإلى إنقضاء الدهر محبة الانسان، والذي لم يختبر الحب من طرف واحد لا يمكنه أن يفهم آلام الرب أمام شخص بدّل قلبه بحجر. لذلك تراه مستعد لعمل المستحيل كي يكسب ثقة ومحبة المشككين فيه قبل المؤمنين.
من جهته يبحث الإنسان في مخيلته عن إله قوي، قدير، جبار. مثلما تصوره ايليا.. أما الله فأظهر له ذاته "بصوت صمت هادىء". وهذا ما حصل على امتداد تاريخ العهد القديم، بل على امتداد تاريخ البشرية حتى اليوم...كلنا ينتظر إلهاً قويا جبارا، وإذا به جاءنا طفلا فقيرا، ضعيفا، عرضة لأي خطر. لقد أتى علامة للتاريخ "طفلا مولودا مقمطا مضجعا في مذود".
في ميلاد الكلمة دخل الله التاريخ،
لا احد يستطيع أن يقول أن يسوع كان اسطورة، إنه للجميع حقيقة تاريخية، "وأما الذين قبلوه، المؤمنون باسمه، فاعطاهم سلطانا ان يصيروا ابناء ألله".
التجسد في الواقع هو مثل الصليب، عسرة لليهود وجهالة للأمم. (ما بتخرط بالعقل) أي إنسان يستطيع أن يخترع قصةٍ كهذه إن لم تكن وحياً إلهياً: الله تجسد، الله صار إنسانا، طفلا بحاجة لأبوين... بحاجة ككل طفل إلى اهتمام وحنان حتى ينمو ويكبر.
الله بتجسده صار عرضة لكل ما يؤذي الجسد والنفس. يجربه الشيطان، يخاف الألم والموت لأنه إنسان حقا.
أي مقدار من الحب أحبّنا الله ليضع ابنه الوحيد بين يدي مريم ويوسف ؟ وأي ثقة لله الآب تجاه مريم ويوسف!
كم هو كبير شأن العائلة في نظره ؟ ماذا كان ينتظر منهما أن يورّثاه؟بشرياً، كان لمريم ويوسف الدور الرئيسي في التربية الانسانية لبكر الآب.
لقد علّماه الإصغاء الدائم إلى الروح، البحث عن مشيئة الله والعمل بها، والحكمة في مقاومة الشرير. ليس بالتعليم النظري بل بالتلمذة، بالتأثير الإيجابي الذي قبله يسوع مجرّد مشاهدة والديه يتصرفان في الحياة اليومية. كل ذلك كان كافياً لينمو بالحكمة والإيمان والرجاء بالله والمحبة الكاملة...لذلك عيد الميلاد هو عيد العائلة بامتياز ...حيث تجتمع العائلة بفرح كبير حول مائدة غنية ويتبادل أفرادها الهدايا.
ماذا ينتظر الله أن تورثوا أولادكم إذا لم يكن إيمانكم كإيمان مريم ويوسف ؟
ليذكر بعضنا بعضاً بهذه المناسبة، ليس فقط بشعار "ولد المسيح هللويا" ولكن "ولد المسيح إلهنا ومخلصنا هللويا" الذي يُترجم فعلاً وعملاً والتزاما بقضية الحب في العالم. ساعتئذٍ يكون الميلاد حبًّا مشتعلاً بين الله والإنسان تستفيد من دفئه البشرية جمعاء...
ولد المسيح إلهنا ومخلصنا....هللويا
/الخوري فادي أيوب/
#خدّام الرب