في معظم أيقونات رقاد السيدة الكُلّية القداسة والدة الإله الدائمة البتولية مريم، نشاهد أمام سريرها الذي ترقد عليه، ملاكاً يحمل سيفاً ويقطع به يديّ إنسانٍ يمُدُّهما نحو السرير المُسجّى عليه جسد البتول الطاهرة.
يُخبرنا التقليد المقدس أنه فيما كان الرسُل القديسون يحملون جسد العذراء مُشيّعين إياه بصلواتٍ وتراتيل من جبل صهيون، حيث رَقدَت، إلى الجسمانية أسفل جبل الزيتون ليدفنوه هناك، أثار ذلك حَسَد وحِقد اليهود، فما كان من أحد كهنة اليهود المُسمّى "إيفونيّاس" سوى أن إقتربَ من موكب الجنازة، ومَدّ يديه نحو نعشِ العذراء مُريداً أن يَقلِبَهُ ويُلقي به أرضاً، فما كاد يَمُدّ يديه ليفعل ذلك، حتى حَسمَ ملاك الرب يديه بسيفه بحالٍ غير منظور، فسقط على الأرض متألّماً وباكياً إذ أدرك خطيئته، وسأل الرسُل أن يغفروا له ويسامحوه، فتقدّم بطرس الرسول ووبّخه على قساوة قلوبهم ورفضِهم للمسيح، وحثه أن يتوب ويؤمن بالمسيح من كل قلبه عسى أن ينال الغفران والخلاص، ثم أمرهُ أن يضع ساعديه على كَفَّيهِ المقطوعتين، وبمعجزةٍ عادت والتَحَمَت كَفّاهُ المقطوعتين، ولكن بقي مكان القَطع ظاهراً كخيطٍ أحمر حول المِعصَمين، فآمن "إيفونيّاس" بالرب يسوع المسيح، ونهض وتابع طريقه مع الرسُل في تشييع جسد العذراء إلى مثواهُ في الجسمانية، وبعد ذلك نال المعمودية المقدسة، وكانت هذه المعجزة سبباً في إيمان يهودٍ آخرين بالمسيح.
هذا القصة التي يرويها التقليد وتكتبها الأيقونة الأرثوذكسية، تَستحضر إلى أذهاننا حادثةً مُشابهه في العهد القديم، وذلك عندما إستعاد داود الملك "تابوت العهد" الذي إستولى عليه الفلسطينيون قديماً، ثم نقلهُ في إحتفالٍ وموكبٍ عظيم إلى القدس، وفي الطريق عندما وصلوا إلى بَيدر كيدون، جَفَلت الثيران التي كانت تجُرّ العَربة التي عليها تابوت العهد، فتقدّم شخص إسمه "عُزَّا بن أبيناداب" ومدّ يديه مُمسكاً بالتابوت المقدس، الذي لم يكن يجوز لأحدٍ أن يلمُسَه على الإطلاق، بسبب قُدسيّته الفائقة، بل كانت مَهمّة حَمله منوطة بالكهنة فقط، فيحملونه على أكتافهم بعَصَواتٍ في حلقاتٍ من جانبيه، فغضبَ الرب عليه وللحال سَقط عُزَّا على الأرض ميتاً (1 أخبار الأيام 13: 7-14 و2 صموئيل 6: 3-11).
إن تابوت العهد هو إحدى الرموز في العهد القديم التي تُشير إلى العذراء مريم، كما شرح ذلك وبيَّنهُ الآباءُ القديسون، حيث في التابوت المقدس وُضِع لوحيّ الوصايا العَشر التي سَلّمها الرب لموسى على جبل سيناء (خروج ٢٥:٨-١٠، ١٦؛ ٣١:١٨) ووضِعت فيه أيضاً عصا هارون التي أورَقَت بمعجزة، وكذلك جرّةٌ ذهبية فيها بعض المَنّ السماوي الذي أنزله الله على شعبه وأطعمهم في الصحراء بعد خروجهم من أرض مصر (عبرانيين ٩:٤؛ خروج ١٦:٣٣، ٣٤؛ عدد ١٧:١٠).
وهكذا فإن العذراء حَوَت في أحشائها كلمة الله، ليست مكتوبةً على لوحيّ حجارة، بل أقنوم الكلمة بذاته إذ حلّ في حشاها الطاهر وإتَّخذَ من لحمها ودمها الطبيعة البشرية بكاملها. كما أن عصا هارون الكاهن تُشير أيضاً رمزياً إلى الحَبَل البتوليّ بالمسيح في بطن العذراء، حيث أن العصا كانت جافّة ويابسة لا رطوبة فيها، ولكنها بمعجزةٍ أينَعَت وأخرجت أوراقاً وأثمرَت لوزاً، مشيرةً رمزياً إلى الحَبل بالمسيح الذي تمّ بغير زرعٍ بشريّ في أحشاء فتاةٍ عذراء لم تعرف رَجُلاً. والجرّة الذهبية التي كان تحتوي على المَنّ السماوي، أيضاً تُشير إلى العذراء التي حَوَت في داخلها "خبز الحياة" الحقيقي، الذي هو ربنا يسوع المسيح نفسه، من أعطانا جَسدهُ ودمه المقدسين في سرّ الإفخارستيا، غذاءاً سماوياً حقيقياً.
إن ليتورجيا الكنيسة الرومية الأرثوذكسية تُردّد صَدى هذين الحَدَثين وتشير إلى "عُزّا بن أبيناداب" الذي لَمسَ بجسارةٍ وعن غير إستحقاق تابوت العهد المقدس، فنال عقابهُ الفوريّ إذ سقط ميتاً، وتُماهي بينه وبين شخصية "إيفونيّاس" الكاهن اليهودي الذي قطعَ ملاك الرب يديه لما حاول تدنيس جسد العذراء في موكب جنازتها، حيث نقول في صلوات عيد دخول السيدة إلى الهيكل:
«لمّا كُنتِ تابوتاً لله حَيّاً ناطقاً يا والدة الإله، فلا تَلمُسَنَّكِ يدٌ رَجِسَة البَتّة. أمّا شفاهُ المؤمنين فلا تَصمُتنَّ عن امتداحكِ مرنّمةً لكِ بصوت الملاك، وهاتفةً بابتهاجٍ تقول: أيتها العذراءُ النقية إنكِ في الحقيقة أسمَى قدراً من جميع الخلائق».
(التسبحة التاسعة في صلاة السَحَر لعيد دخول السيدة إلى الهيكل، 21 تشرين الثاني)
مواسم مباركة
/بقلم: رومانوس الكريتي/