يروي الإنجيل المقدّس أن يسوع "فيما هو مجتازٌ رأى رجلاً أعمى منذ مولده. فسأله تلاميذه قائلين: رابّي، من خطئ، أهذا أم أبواه، حتى وُلِد أعمى؟ أجاب يسوع: لا هذا خطئ، ولا أبواه؛ ولكن لكي تظهر أعمالُ الله فيه... ما دمتُ في العالم فأنا نور العالم" (يوحنّا 1:9-5).
كان اليهود يعتقدون أنّ المرض هو عقاب من الله على خطايا الإنسان.
جواب يسوع هو من جهة رفضٌ صريح لهذا الاعتقاد ومن جهة أخرى العمل على شفاء هذا الأعمى. وفي مناسبة أخرى أُخبِر "بما وقع للجليليّين الذين خلط بيلاطس دماءهم بدم ذبائحهم، فقال لهم: أتظنّون أنّ هؤلاء الجليليّين كانوا أكبر خطيئة من سائر الجليليّين لكونهم نُكِبوا بمثل ذلك؟ أقول لكم: لا. بل إنْ لم تتوبوا، هلكتم بأجمعكم كذلك. وأولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم أتظنّون أنّهم كانوا أكثر ذنبًا من سائر سكّان أورشليم؟ أقول لكم: لا. بل إنْ لم تتوبوا، هلكتم بأجمعكم كذلك" (لوقا 1:13-5). هنا أيضًا ينكر يسوع العلاقة بين خطايا الإنسان والمصائب التي يقع فيها في مختلف ظروف حياته. ويرى في هذا الحدث مناسبة لينقل الموضوع إلى المستوى الروحيّ، أي علاقة الإنسان بالله. ومعنى قوله: يتعرّض الإنسان في حياته على الأرض لمصائب متنوّعة لا علاقة بينها وبين خطاياه. لكنّ الأهم من ذلك هو أن يتوب لئلاّ يهلك الهلاك الأبديّ.
إنّ الربط بين مرض الإنسان وما يحدث له من مصائب من جهة وخطاياه من جهة أخرى يعود إلى عقليّة قديمة ترى أنّ الله هو سبب كلّ ما يحدث للإنسان وأنّ العدل الإلهيّ يقضي بمعاقبة الإنسان على خطاياه في هذه الحياة. وهذا الربط نجده في معظم أسفار العهد القديم وحتى عند الوثنيّين. فيروي سفر أعمال الرسل أنّ بولس الرسول، في أثناء سفره إلى رومة، نجا من العاصفة ووصل إلى مالطة. فاستقبله البرابرة. وأضرم معهم نارًا، فخرجت من النار أفعى ونشبت في يده. فقال البرابرة بعضهم لبعض: "لا شكّ أن هذا الرجل قاتل. فإنّه بعدما نجا من قبضة البحر لم يدعه العدل الإلهيّ يحيا. أمّا هو فنفض الحيوان إلى النار ولم ينلْه منه أذى" (أعمال 4:28-5).
هذه العقليّة لا تزال سائدة في مجتمعاتنا المسيحيّة والإسلاميّة. فنسمع بعض الناس، عندما تُلِمّ بهم مصيبة، سواء أكان مرضًا أم وفاة أحد أحبّائهم، يقولون: أيّ شرّ فعلتُ لكي يعاقبني الله بهذا المرض أو بهذه الوفاة؟ وعندما انتشر وباء "كورونا" رأى البعض في هذا الوباء عقابًا من الله على خطايا البشر. وكذلك القول عندما يحدث زلزال أو فيضان. المرض والوفاة ليسا عقابًا من الله بل هما نتيجة حدود الإنسان. ويعود للإنسان أن يعمل ما في وسعه لمعالجة مختلف الأمراض والتخفيف من أوجاع المشرفين على الموت. وفي عمله هذا تظهر محبته التي يستقيها من ينبوع الله المحبة، والتي من خلالها يظهر مجد الله كما ظهر من خلال شفاء يسوع للأعمى منذ مولده. كما أنّ إيمانه بالله يدعوه إلى عدم اعتبار مرضه أو وفاته نهاية كلّ شيء في حياته بل عبورًا إلى الحياة الأبديّة مع الله.
وكذلك القول عن الأوبئة والزلازل والفيضانات، فهذه أيضًا ليست عقابًا من الله بل نتيجة حدود الكون. وعلى الإنسان أن يعمل بما أوتي من عقل ومعرفة على سبر أسرار الكون من أجل تفادي الأخطار التي قد تنجم عن أوضاع الكون المحدودة. كما أنّ هذه الكوارث قد تنجم عن تعدّي الإنسان على أنظمة الطبيعة وعلى البيئة التي يرى فيها مجالاً واسعًا لأطماعه، فيعيث فيها فسادًا دون أيّ رادع أخلاقيّ. فالطبيعة هي التي تعاقب الإنسان وليس الله الذي خلق الإنسان حرًّا وسلّمه إدارة مخلوقاته، وحذّره من نتائج سوء استعمال حرّيّته.
ومن ناحية أخرى يرى البعض أنّ الله يجرّب الإنسان ليمتحنه. عن هذا يُجيب القديس يعقوب في رسالته الجامعة: "لا يقولنَّ أحدٌ، إذا ما جُرِّب: ’إنّما الله يُجرِّبني‘: فإنّ الله غير مجرَّب بالشرور، وهو لا يجرِّب أحدًا. إنّما كلّ واحد تُجرِّبه شهوته الخاصّة، إذ تجتذبه وتستغويه. ثمّ الشهوة إذا ما حبلت تُنتِج الخطيئة، والخطيئة إذا ما تمّت تُنتِج الموت. فلا تغلطوا، يا إخوتي الأحبّاء، إنّما كلّ عطيّة صالحة، وكلّ هبة كاملة تهبط من فوق، من لدنْ أبي الأنوار، الذي ليس فيه تحوّل، ولا ظلّ تغيّر" (يعقوب 13:1-17).
الله محبة مطلقة وهو، كما ندعوه في صلواتنا، "طويل الأناة وكثير الرحمة". إنّه ينبوع كلّ خير وصلاح، ولا يمكن أن ينتج منه إلاّ الخير والصلاح. وعلى الإنسان أن يعرف من جهة حدوده ويتحمّل من جهة أخرى مسؤوليّته التي من خلالها ينبغي أن يظهر مجد الله في هذا العالم.
/المطران كيريللس الأورشليمي/