الربُّ مُستقيمٌ وهو صخرتي ولا سوءَ فيه (مزمور 15:92).
1. "الله لا شرَّ فيه" (مزمور15:92) وليس هو مثل "آلهة" اليونان الذين يتقاتلون لأجل القوّة والشهوة. وكيف يدين الله النّاس لأجل شرورهم إن كان يُخالطه الشرّ؟ وكيف ينجّينا من الشرّ إن خالطَه الشرّ؟ الله هو الكَمال بالذّات، والشرّ هو نقصٌ وعيبٌ في الكيان، ولذلك يستحيل أن يكون في الله شرّ ولا شبه شرّ. وحده الإنسان يُخالطه الشرّ كقول جبران خليل جبران: "في البَحرِ مَدٌّ وجَزرُ/ في النّاسٍ خَيرٌ وشَرُّ".
2. سقطة آدم أدت إلى معطوبية جنسنا فصرنا عُرضةً للألم النفسيّ والجسديّ والشيخوخة والمرض والموت، وعرضةً لأن نؤذي الآخرين ونتأذّى منهم. فقد يُصيبُ المرء مُصابٌ في أيّ مرحلة من العمر، وفي أيّ ظَرف، وقد تأتيه الأذيّة من أيّ شخص كان. فهذه عاقبة سقطة بشريّتِنا وليس الله هو الذي يوقِعُ هذه الشرور فينا.
3. سقطة آدم أدّت إلى خلل في نظام الكون والطّبيعة. وقولُ الله لآدم "ملعونةٌ الأرض بسببك" لا تعني أنّ الله لعَنَ الأرض بل يقول له عاقبة خطيئك لحقت بالأرض أيضًا، كما قال الرسول: "الخليقة كلّها تئنُّ من آلام المخاض بسبب الذي أخضعها" (19:8_22)، أي إبليس الذي بإيقاعة آدم في المعصية تسبّب للخليقة بالمعطوبيّة أيضًا. فإذا فاجأتنا الطبيعة بالزّلازل والبراكين والأعاصير والأوبئة فتلك عاقبة سقطة جنسنا وليس الله هو الذي يوقِعُ هذه الشرور فينا.
4. هناك أيضًا تأديبات الربّ "فالذي يحبّه الربّ يؤدّبُه" (عبرانيّين 6:12؛ أمثال 12:3). والتّأديب شكلٌ من الألم، وليس هذا شرًا من الله وعلى المؤمن أن يقرأ جيدًا ما أصابه ويتوب عمّا يفعله من خطيئة. وليعتبر المؤمن أنّ كلّ مُصاب هو تكفيرٌ عن خطاياه وحافزٌ له على التّوبة والعودة إلى الله طلبًا للمغفرة والحماية ورفع المـُصاب. وقد طلب كثير من القدّيسين الألم مشاركةً في آلام يسوع لأجل تقديسهم وسامحوا الذين آذوهم، على مثال القدّيس أسطفانس الذي سامح راجميه وصلّى لأجلهم قائلًا: "با ربّ لا تُقِم عليهم هذه الخطيئة" (أعمال 60:7).
5. هناك أيضًا هجمات إبليس. فمُذ حاورت حوّاء الحيّة (تكوين 3) صرنا عُرضةً لهجمات الشرّير وتجاربه ومكائده وأذاه بطرق شتّى. "إنّ أبليس خصمكم هو كأسدٍ يزأرُ ويتجولُ طالبًا فريسةً له" (1 بطرس 8:5 أ). وبارتكابنا الخطيئة نعرّض أنفُسنا لعواقب الخطيئة، فلكلّ خطيئة عواقب تنعكس على حياتنا ونفسيّتنا وعلاقاتنا، وبالخطيئة نُسبّب لأنفُسنا أذيّة إبليس، ولهذا قال الرسول: "من ارتكب الخطيئة كان من إبليس لأن إبليس خاطئ منذ البدء" (1 يوحنّا 8:3 أ)، ونقع تحت الدّينونة. وقد جاء يسوع ليخلّصنا من الخطيئة ودينونتها وعواقبها النفسيّة والحياتيّة والروحيّة، كما قال الرّسولُ: "إنما ظهرَ ابنُ الله ليُحبِطَ أعمالَ إبليس" (1 يوحنّا 8:3 ب). وهنا أيضًا، في الشرور التي نُسبِّبُها لأنفسنا بسبب الخطيئة، والتي يسبّببها لنا الآخرون بسبب خطاياهم، ليس الله هو الذي يصيب البشر بالشّرور. بل هو يتألم لأجل خطايانا ولأجل الأذيّة التي تسبّبها الخطيئة لنا وللآخرين ويدعونا إلى التّوبة والعودة إليه.
6. هناك أيضًا الأذيّة بسبب السحر والتّنجيم والعرافة، وهذه الممارسات قديمةٌ قِدَمَ البشريّة، فإبليس هو المنجّم والعرّاف االأول في خطابه لحوّاء. الأذيّة هنا للنفس والجسد والروح قد تكون مؤلمة جدًا وشديدةً وطويلة الأمد جدًا، وقد تكون مُدمِّرة ومُميتة. هنا أيضًا ليس الله هو الذي يوقع الشرّ بل حذَّرَ الله تكرارًا من هذه الممارسات وأذاها الشديد ودعانا إلى اجتنابها كليًّا (تثنية 11:18). لكن أين الله في كلّ هذا؟
7. المبدأ الأساس أنّ الله لا يتدخّل ليمنع الشرّ. هل نَذكُر أمرَ الملاك ليوسف أن ينهض فورًا في منتصف الليل ويأخذ الصبيّ ويهرب فورًا إلى مصر (متى 13:2)؟ والربَ يسوع كان قادرًا أن يمنع اليهود من اعتقاله، لكنَّه لم يفعل: "أستطيعُ أن أطلبَ من أبي اثني عشر فيلقًا من الملائكة" (متى 53:26). والرسل جميعًا ما عدا يوحنّا ماتوا استشهادًا. ليس ذلك لأنّ الله عاجزٌ، بل "يترك القمح والزؤان ينموان معًا" (متى 30:13) ويدين الأشرار في يوم الدّين.
8. لكنّ الله لحكمته قد يتدخَّل ليمنع الشرّ، متى شاء ذلك. فهو أنقذَ نوحًا من الطّوفان ولوطًا من عقاب صادوم. وقد يعاقب الأفراد والجماعات في هذه الحياة، خصوصًا عند استفحال الشرّ، كما في صادوم وعامورة. لكن ليس كلُّ مُصاب هو عقابٌ من الله، وليس لنا أن نَحكُمَ على أحد أنّ "الله ضربه"، فنحن غالبًا ما نستعمل هذا التّعبير انتقامًا وتشفِّيًا من أخصامنا. وهل نرضى أن يقولوا هم الأمرَ نفسَه عنّا في مُصابنا من باب الشماتة والاتّهام بالسّوء؟
9. ماذا نعمل؟ لقد جاء الربّ يسوع "ليخلِّصَ شعبَه من خطاياهم"، ومن عواقب الخطيئة أيضًا (متى 21:1). لهذا يدعونا الكتاب لأن نُحارب إبليس "راسخين في الإيمان" (1 بطرس 8:5 أ)، ولنتُب عن خطايانا فنتجنّب الشرور التي تسبّبُها الخطيئة. أما الآلم النّاجم عن معطوبيّة طبيعتنا، وعن مفاجآت الطّبيعة، فنحن نصلّي لأجل نجاتنا منه. فعندما نبتهل إلى الله قائلين: "لأجل نجاتنا من كلّ ضيقٍ وغضبٍ وخطرٍ وشدّةٍ"، فالربّ يسمع ويستجيب بحسب سرّ حكمته ومشيئته. ويسوع صلّى في البستان أن "يُجيزَ عنه الله كأسَ الآلام، إن شاء" (لووقا 42:22). ويقول سفر العبرانيّين إنّ الله "استجاب ليسوع لتقواه"، لكنّ الله استجابَه بطريقةٍ أُخرى، بأن أقامه من بين الأموات. ونحن مدعوّون لأن نُسامح الذين يؤذوننا على قدر ما في وسعنا ولا نفكّر بأذيّة أحد، فيكفي ما في العالم من شرور كما قال الربّ "يكفي اليوم شرّه" (متى 34:6).
10. وهناك شرورٌ كثيرةٌ تقع علينا بسبب جهلنا وسوء تصرّفنا وقلّة درايتنا وتسرّعنا وعدم تفكيرنا كفايةً بأوضاعنا المختلفة والتحدّيات التي تواجهنا، وتلبيتنا لشهواتنا. والمؤمن يلتمس هداية الربّ في قراراته وخياراته، فيوجهه الله ويهديه، كما قال المزمور: "يا ربّ إليك لجأت. علّمني الطريق الذي أسلُكُ فيه فإنّي إليكَ رفعتُ نفسي. علّمني أن أعمل مشيئتكَ لأنك أنتَ إلهي. ليهدني روحُك الصالح في طريقٍ مُستقيمة" (مزمور 8:142_10).
11. وأحيانًا نقرأ تدابير الله بشكل خاطئ ونلومُه لأنّه منعَ عنّا أمرًا نعتقد أنّ أنّه لخيرنا، ليتبيّن لنا لاحقًا أنّه لم يكن خيرًا بل شرًّا، ولم يكن مشيئة الله. وفي جميع الأحوال، الحلّ هو الثّبات في الإيمان والثّقة بالله والصّبر على المُصاب مهما كان كبيرًا. أما اتهامُنا لله بأنّه أوقع بنا الشرّ فتراجُعٌ كبيرٌ في الإيمان وخطيئةٌ جسيمةً
12. الخلاصة هي أنّنا نواجه الشرّ بالثّبات في الإيمان والتّوبة والمغفرة وعمل مشيئئة الله، والصلاة للذين يؤذوننا، والتماسًا للحماية، تاركين للربّ أمر تدبير تفاصيل حياتنا، ذاكرين وعوده لنا بالحماية: "مَن يمسّكم يمسُّ حدَقة عيني" (زكريا 8:2)؛ الساكن في كنَف العليّ يُقيم في حِمى إله السماء" (مززمور1:90). "الربّ يعرف كيف ينقذ الأتقياء من المحنة ويُبقي الفجار للعقاب يوم الدينونة" (2 بطرس 9:2). وبالنّتيجة، جميعُنا في النّهاية سنُعاني الشيخوخة والألم وننتهي إلى الموت. فلنذكُر عندها أنّ مُصابنا ليس سببُه الله، فلسنا نحنُ بخالدين، والأهمّ من ذلك كلّه أن نبقى ثابتين في إيماننا ولا نشكّ بعناية الله ومحبّته لنا.
13. هل يجرّب الله إيماننا كما جرَّبَ إيمان أبينا إبراهيم (تكوين 22)؟ يقول القدّيس يعقوب إنّ كلّ ألم وشرّ يصيبُنا هو اختبارٌ لإيماننا، علينا أن نثبُتَ في أثنائه ونتعامل معه كما تعامل معه آباؤنا القدّيسون: "أنظروا إلى ما يُصيبكم من مختلف المحن نظركم إلى دواعي الفرح الخالص. لأن امتحان إيمانكم يلد الثبات، وليكن الثبات فعالا على وجه كامل، لتكونوا كاملين سالمين لا نقص فيكم. طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة لأنه يثباته في الاختبار ينالُ إكليل الحياة الذي وعد به الله الذين يحبونه (يعقوب 3:1-12)
14. بعدها، هل "يسمح الله بالشرّ"؟ بناء على ما ورد أعلاه، هذا التّعبير غير دقيق، فالكتاب يقول: "إن جُربَ أو وقعَ أحدٌ في محنةٍ فلا يقل هذه محنة وتجربةٌ من الله. الله لا يمتحنه ولا يجرّبه الشر ولا يمتحن ولا يجرّب بالشر أحدًا. شهوةُ الإنسان تجربه فتفتنه وتغويه. والشهوة إذا حبِلَت ولدَت الخطيئة، والخطيئة متى نضجَت خلَّفت الموت" (يعقوب 13:1_15). القول إنّ الله سمح بالشرّ قد يحمل البعض على التذمّر على الله واتهامه بالظّلم، بينما قال الكتاب إنّ الله صخرةٌ وسَنَدٌ ومعونةٌ في المضايق، ولا ظُلمَ فيه" (مزمور 156:92)
15. ليس لله أيّ علاقة بالشرّ، وتعامُل الله مع الشرّ هو من أسرار الله، كما قال الربّ للقدّيس أنطونيوس. ويقينًا فالله يكبح تفلّت إبليس ويضع حدًا لأذيّته على مدى التّاريخ. والله في نهاية الزمن سيُكافئ الأبرار ويُعاقب الأشرار ويُبيدُ الشرّ إلى الأبد.
/الأب أنطوان يوحنّا لطّوف/
#خدّام الرب