أخذ الضباب في صباح أحد الأيام ينقشع شيئاً فشيئاً وظهر تحته منظر جميل جداً يمتد إلى آخر ما يصل إليه النظر، وفي وسطه نهر يجري هادئاً لا يكدر سكونه سوى أصوات بعض الأطيار وحفيف أجنحتها.
ثمّ سمع فيه على بعد حركة سير قارب من أربعة فتيان إثنان منهم في مؤخرته يديرون دفته والإثنان الآخران يجدفان بسرعة ونشاط.
وقد خرجوا في نهر أفون إلى جهة ستراتفورد.
وفي طريقهم إقتربوا من قرية صغيرة لها مطحنتان على النهر وقد بُني لهما فيه سد عريض نشأ عنه دوامة عظيمة.
فلما مروا بها رأوا ذواتهم قد إضطربوا وإختبط القارب بعنف شديد، لكنهم ثبتوا فيه جهدهم، وما لبث أن عاد إلى سيره الطبيعي.
فأخذوا يتساءلون: ما هذا؟ ما الذي أوجب إضطراب القارب وإختباطه هكذا؟
فقال أكبرهم: أنا أعرف علة ذلك.
وإذ كان كاتب هذه القصّة واحداً منهم فسيعيد ما قاله كلمة كلمة كما يلي :
خرج منذ بضع سنين رجلان في قارب صغير وأتيا إلى حيث جئنا نحن الآن.
ولا أعلم إذا كانا قد خرجا للصيد أو للتنزّه.
وكان الماء عالياً جداً إندفع فوق السد، فإنقلب قاربهما بغتة وسقطا كلاهما في الماء.
وكان أحدهما من مشاهير السبّاحين في تلك البلاد، والآخر لا يقدر أن يسبح البتّة.
ولهذا إختبط على سطح الماء وصرخ مستغيثاً.
وفي الحال أسرع بعض الرجال إلى إنقاذه وهكذا نجا.
أمّا الآخر فإتّكل على نفسه في أمر النجاة ولهذا سدّ أذنيه عن نداء الرجال الذين أنقذوا رفيقه وعندما دعوه قائلين: أسرع يا يوحنا إلى قاربنا.
أجابهم: إنّ ثيابي مبلّلة الآن فلا أدخل قاربكم بل أسبح حوله.
وهكذا أخذ يسبح حول القارب رغماً من إنذارهم له.
أخيراً بلغ في سباحة مجرى السد حيث الدوامة وقد إبتعد عن القارب أكثر من ستين أو سبعين ذراعاً.
فنظر إليه أولئك الرجال ورأوه يتخبط قبل سقوطه.
فبذلوا غاية جهدهم في الوصول إليه ولم يستطيعوا.
وقد حاول ذلك المسكين أن يتخلص مجاهداً جهاد الأبطال لكنه لم يقدر على الإفلات من أيدي المياه الملتفة عليه كالحبال.
وقبلما استطاع القارب الدنو منه صرخ بصوت اليأس: أخبروا زوجتي وأولادي بموتي.
وغاص في العمق.
وهكذا هلك.
ولا أرتاب في أن هلاكه كان حيث اختبط قاربنا الآن.
ومما يجب أن نلاحظه أن الضعيف نجا والقوي هلك.
وذلك لأن الواحد طلب المساعدة والآخر رأى ألّا حاجة إليها.
فالأول لا يزال حياً والثاني مات لساعته.
فإستولى على جميع من في القارب سكون وخشية عند سمعهم هذه القصة الغريبة.
ولا بد أن البعض منا تذكروا القول :
"يؤخذ الواحد ويُترك الآخر" (لو ١٧: ٣٥).
عزيزي القارئ...
هذه الحادثة لا تزال تتكرّر. فالخاطئ المسكين المحتاج يصرخ: إرحمني اللهم.
وهكذا يُرحم.
والمتّكل على برّه الذاتي يُترك خارج الحظيرة.
فيا صديقي قل لي ماذا يكون نصيبك أنت؟ أتؤخذ أم تُترك؟
هوذا يسوع يدعوك. هوذا يسوع يطلبك. فدعه يجدك اليوم.
وحينئذ حين يأتي المخلص ليجمع خاصته تؤخذ لتكون (مع الرب إلى الأبد).