زارتها القديسة ريتا… قصة رؤية سماوية عايشتها عائلة لبنانية
زارتها القديسة ريتا… قصة رؤية سماوية عايشتها عائلة لبنانية
22 May
22May
المصدر: النهار
بارقة أملٍ لا تزال تحتضن الكون.
هي نفسها تلك الحفنة من المحبّة التي عبّر عنها أمين الريحاني في حبر رسالته الى مارون عبّود، بارك له فيها بولادة ابنه “محمّد”، فأبرق له قائلًا: “أخي مارون عبود، اصافحك بيدي الحب والاعجاب، وأهنئك بصبيك الجديد، وأهنئه باسمه الأجد، وبالقصيدة التى نظمتها له ولهذا الوطن الغنيّ بالأديان، الفقير بين الأوطان. أحسنت يا مارون أحسنت! وخير الأباء أنت!!”.
أمّا اليوم، فلا يزال وقع صدى حكاية “أبو محمّد” يتردّد في أقاصيص يافعة.
هي أقاصيصٌ مقدّرة، على شكل تذاكر عبورٍ نحو الصفاء الحقيقيّ.
ورغم أن خيار المحبّة صعبٌ في زمنٍ تحوّلت فيه قلوب نسبة كبيرة من البشر الى مضخّاتٍ على شاكلة آلة تفتقر لأدنى معايير الإنسانيّة، الّا أنّه لا زال في هذا العالم من يذكّر الإنسان أنّه “إنسان”.
ولعلّ آخر مفترقات تلك المحبّة الكونيّة، تجسّدت في حكايةٍ واحدة: “ريتا المُسلِمة”.رؤية تجسّدت في 22 أياركان ذلك اليوم مختلفًا في حياة الثنائي المسلم الموحِّد فارس ورنا بو مجاهد.
حينها استفاقت الزوجة تبشّر زوجها بحلمٍ غريب واكب ليلتها.
وحصل ذلك بعد مرور حوالي الشهرين على حمل رنا بولدها الثاني. “ماذا حصل في تلك الليلة تحديدًا؟” يشرح فارس بو مجاهد لـ”النهار” التفاصيل: “استفاقت زوجتي على وقع حلمٍ راودها على شكل رؤيا، وروت لي أنها كانت متواجدة في مكان قديم يتجمّع فيه حشد كبير من الناس. وحين سألت عن مكان وجودها، قالوا لها إنها في مزار القديسة ريتا في ايطاليا. وفجأة لمحت أمامها طيف امرأة ترتدي ثوبًا أسود طويلاً وبادرت إلى معانقة زوجتي، التي ما لبثت أن حضنتها وقبّلت ثوبها”. حينها اعتبر فارس أن ذلك الحلم يبشّره بأن مولوده المنتظر فتاة. إلّا أن فصول القصّة لم تختم في هذه الصفحة، بل أتت المحطّة الثانية في سنّ الفيل، وبعد مرور أشهر عديدة، حين قصد الثنائيّ متجرًا لبيع الحلوى بهدف التحضير واختيار “الشوكولا” للاحتفاء بمناسبة ولادة ابنتهما، وشاءت الصدفة أنه يكون الى جانب كنيسة القديسة ريتا في المنطقة.
ويضيف: “كنت مصمّمًا على تسمية ابنتي “سهام” تيمّنًا بوالدتي، فاخترنا الحلوى وطلبنا كتابة اسم الفتاة المختار ضمن الزينة. وخلال مغادرتنا استوقفتني زوجتي بضرورة زيارة كنيسة القديسة ريتا رغم أنها مسلمة موحِّدة. فدخلنا سويًّا وبدأت بالبكاء تلقائيًّا دون سببٍ صريح، ثمّ بادرت الى الصلاة والدعاء”.
كان كلّ شيءٍ حتّى ذلك الحين يسير في اتجاهٍ واحد. الجميع يتحضّر لاستقبال الطفلة “سهام”. مرّت الأيام بسرعة، حاملةً معها البشارة السّارة. “زرنا طبيب رنا في 20 أيّار، وأذكر يومها أنه لمّح الى ضرورة دخولها المستشفى في اليومين المقبلين، وضرورة أن تكون الولادة قيصريّة. في اليوم التالي قصدنا متجر الحلوى في سنّ الفيل رغبةً في إحضار “الشوكولا” الى المستشفى وتحضيرًا لحدث الولادة، وتفاجأنا حينها بزحمة السير الخانقة في تلك المنطقة، وحين سألنا عن السبب أُعلمنا أن عيد القديسة ريتا يصادف في 22 أيّار، والجميع يأتي لزيارة الكنيسة. وفي اليوم التالي، تحسّست رنا وحصلت الولادة طبيعيًّا دون اللجوء الى العمليّة القيصريّة”.
ويعتبر فارس أن مجريات تلك الأحداث كانت بمثابة رؤيا تجسّدت في 22 أيار، حيث ولدت الفتاة التي حملت اسم “ريتا” بدلًا من سهام بعد أن أبصرت النور في اليوم نفسه الذي يقع فيه عيد القديسة، ما دفع فارس الى زيارة متجر الحلوى واختيار زينة جديدة تحمل اسم ابنته الحقيقيّ: “ريتا”.وعن ردّة فعل أقربائه حول التسمية يقول: “كانوا مسرورين جميعًا، في حين بادرت أمي أيضًا الى طلب تسمية ابنتي ريتا بدلًا من سهام، وأكدت أن ما حصل معًا رؤيا سماويّة”.
نحو مجتمعٍ أفضلرغم تبنّي العائلة اللبنانيّة مفهوم الانفتاح الديني والإيمان بالرموز الدينيّة للطوائف الأخرى، الّا أن نظرة الجماعة أي الفرق الطائفيّة عمومًا الى هذه المبادرة قد تتّسم بالضبابيّة. “فكيف تنعكس ظاهرة تشارك الأسماء الدينيّة بين الطوائف المختلفة على المجتمع اللبناني؟” سؤالٌ طرحناه على المعالجة النسقيّة التحليليّة الدكتورة إليانا قاعي، التي ترى أن “انصهار الثقافات الدينيّة تساهم في التحام الفرق المجتمعيّة أكثر من خلال تغذية النفوس وتعزيز معايير الإيمان وإدراك الأمور وفهمها بطريقة راقية. وهذا ما يؤدّي حتمًا الى تقارب اللبنانيين أكثر من بعضهم وكسر ثقافة التعصّب الطائفي التي يعاني منها بعضهم. ولكن السؤال الذي يُطرح في هذا السياق: إلى أي مدى يلجأ الناس اليوم في لبنان الى تبنّي هذه المبادرة؟” وتضيف: “لا يمكن التسليم بانتشار هذه الظاهرة بشكلٍ كبير في صفوف المجتمع اللبناني، الذي لا يزال حتّى اليوم لا يتبنّى هذه الأفعال بشكلٍ صريح، بل تبقى حالات استثنائيّة يلجأ اليها الفرد في ظروف خاصّة”.
وعن العوامل التي تدفع الشخص الى تبنّي فكرة تسمية غير معتادة لأحد أبنائه ضمن محيطه الاجتماعي، تعتبر أن “اللجوء الى ذلك الفعل نابع من الشخص بهذا المبدأ، ولجوئه اليه بإرادته الكاملة نتيجة تجربة معيّنة صادفها، أو في حال أراد توجيه رسالة معيّنة الى المجتمع مفادها ضرورة دحر التعصّب الطائفي الضيّق والتقوقع في إطار الجماعة، وبالتالي الانفتاح في سبيل الالتحام الوطني، متخطّيًا بذلك عتبة الانتقادات واللوم الذي قد يتعرّض له من قبل البعض لأنّه خرج عن نطاق المألوف”.ليس عيشًا مشتركًا بل انصهارًا وطنيًّاقد لا يتلقّى المجتمع فكرة خروج أحد أبنائه عن طور المألوف واللجوء الى تبنّي اسم ديني يرتبط بدين آخر في حال سيطرة المنطق الطائفي على تفكير المواطنين. ولكّنه وفي حال نظر اليه من منطلقه الحقيقيّ الإيجابيّ، سينعكس ذلك ازدهارًا في العلاقات المجتمعيّة اللبنانيّة. من هذا المنطلق يميّز الأستاذ في علم النفس الاجتماعي رائد محسن، بين تعبيرَي العيش المشترك والانصهار الوطني: “من الخطأ استخدام المصطلح الشائع “العيش المشترك” للدلالة على وطنٍ كلبنان، لأن هذا التعبير يشير الى اتفاقٍ ضمنيّ بين شعبين مختلفين وليس في إطار شعبٍ واحد. لذلك يُستحسن في هذا السياق استعمال عبارة “الانصهار الوطني” التي تعتبر عن تكامل مجتمعي”. ويشير الى أن “التسمية الدينيّة هي إحدى أنواع هذا الانصهار الوطني الذي من المفترض أن يتلقّاه الجميع بترحيب وتأييد، ولا أعتقد أن المسألة تثير سخط كثيرين سوى أولئك الذين يتّجهون نحو التعصّب”. وفي مقاربة ديموغرافيّة حول العائلات التي تبنّت مبادرات كهذه، يلفت الى أن “هذا الممارسة منتشرة بشكلٍ كبير في قرى لبنانيّة كثيرة بدءًا من زغرتا ووصولًا الى جزّين، حيث يتشارك أهالي المناطق في التسميات الدينيّة تعبيرًا عن المحبّة المتبادلة، وإيمانًا منهم بالانفتاح. ويذهب بعيدًا في لمحة تاريخيّة حول لجوء البعض الى المصاهرة بين الطوائف المختلقة: “عائلات لبنانيّة كثيرة اليوم، هي نتاج انصهار عائلات مختلفة مثل عائلة “شهاب” التي تتقاسمها كلًّا من الطائفة المارونيّة والدرزيّة والسنيّة، وهذا دليل واضح على أن فكرة التكامل مع الآخر موجودة منذ القدم، لكنّها باتت اليوم أكثر صعوبة في ظلّ الانقسامات الداخليّة الحاليّة”.
لعلّ الطفلة ريتا الأكثر حظًّا في جمعها بين الثقافات الدينيّة المختلفة. ولعلّ والديها نموذجًا لبنانيًّا يقتدى به في مجتمعٍ يحتاج الى خطواتٍ بنّاءة تنقله من كابوس التقوقع الضيق نحو الصفاء الحقيقيّ. ولأن حروق ذاكرة الحرب لا تندمل بسهولة، فإن مبادرات السلام هي البيلسان. حتّى يعلم اللبنانيون يومًا ما أن الأديان ظهرت لتنشر المحبّة، وأن عرّابي الأديان ليسوا أولئك الكفرة الذين يحمون رذائلهم ببنادق الحرب، ويجيّشون السذّاج معهم، بل بأولئك الذين زاروا الكنيسة والجامع معًا وصلّوا للإنسانيّة… كي لا يقتل “معنى الدين” مرّة أخرى، ويسير قتلته في جنازته.