"بعد هذا"، أي بعد معجزة إشباع الجموع، والحديث المطول عن "جسده ودمه"، مكث المسيح فترة في الجليل، مبتعدا عن اليهودية - القسم الجنوبى - وذلك بسبب حسد اليهود، وشكايتهم على المسيح الذي كسر السبت، وطلبوا قتله لهذا السبب.
ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "إن المسيح يعلّمنا هنا مبدءا هاما، وهو أن الابتعاد عن الخطر والفرار من المضطهدين، حيثما تقتضيه الحاجة، هو نوع من الحكمة والفطنة، فالمواجهة في أحيان كثيرة لا تكون ضرورية ..."
والمسيح هنا -حاشا- لم يكن خائفا، وهو العالم بأنه سوف يبذل ذاته، ولكن لكل شيء وقت.
"عيد المظال": هو أحد أعياد اليهود الثلاثة الكبار. وكانت مدة العيد 8 أيام، ومكانه أورشليم، ويسمى بموسم الحصاد، وقد فرض هذا العيد على إسرائيل من الله (خر 23: 16) لمعانيه الروحية التالية:
(1) تذكار الغربة: فالجميع يتركون منازلهم، ويسكنون تحت مظال فوق الأسطح أو على الطرقات، ليذكرهم الله بالأربعين سنة التي قضوها في البرية، ثم كيف أورثهم الله هذه الأرض.
(2) الشكر والفرح: فالحصاد يبدأ مع أول الأعياد، وهو الفصح، ولكنه ينتهى منه بالتمام مع زمن عيد المظال، فيكون الشكر والفرح على بركات السنة كلها.
† إلهي الحبيب... اجعلنى دائما متذكرا أننى هنا في زمن الغربة تائها، ولكن راحتى الحقيقية والدائمة هي عندك هناك حيث الميراث الباقي الحقيقي، فلا تجعل شيئًا يشغلنى عنك وعنه، وأعنّى على قضاء غربتى بسلام..
"إخوته": ذكرهم القديس متى (مت 13: 55)، وهم يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا؛ وهم إخوة للمسيح، ولكن ليس من القديسة البتول مريم، بل إن أبناء الخالة والعمومة يطلق عليهم إخوة في منطقة الشام، كما أطلق على إبراهيم ولوط قديما إنهم إخوة، بالرغم من أن إبراهيم هو عمه.
أما ما قاله هؤلاء الإخوة للمسيح باختصار هو: إنه عليك أن تذهب، حيث الجموع والزحام في عيد المظال، لتصنع معجزاتك هناك، فيؤمن الجميع بك، بدلًا من أن تصنع هذه العجائب هنا في القرى الصغيرة، ولا يعرفك أحد. ولكن القديس يوحنا يكشف لنا سرا يوضح الدافع لهذه النصيحة، وهذا السر هو (ع5) إن إخوته لم يكونوا يؤمنون به. وبالتالي، أرادوا للمسيح أن يذهب لأورشليم، حتى يفحصه الكهنة والكتبة ليعرفوا هل هو المسيح أم لا.
"وقتى لم يحضر بعد": تحتمل معنيان؛ الأول: هو ما يختص بوقت صلبه وفدائه وتقديم نفسه ذبيحة من أجل العالم. والثانى: سوف أصعد، ولكن ليس الآن. فالصعود العلنى مع حالة الترقب، يهيج حسد الرؤساء، فيطلبونه للموت قبل الوقت المعيّن، والذي حدده الله نفسه.
يشير السيد هنا إلى سبب بغض اليهود وعدم قبولهم له، وهو أن العالم في مجمله، وبسبب خطية حب الذات، لا يقبل التوبيخ، بل هو مستعد حتى لقتل كل من يوبخه، فالذى يحب الظلمة يكره النور. فعندما كاشفهم المسيح بخطاياهم، طالبوا بهلاكه، بدلًا من الاستماع له والتوبة عنها.
† يا ليت قلوبنا تتضع وتعترف بخطاياها، ونستمع لصوتك أيها المخلص، فنوبخ أنفسنا، بدلًا من أن نتجاسر، في كثير من الأحيان، ونلقى باللوم عليك فيما نستحقه نحن من تأديب.
يكمل السيد المسيح الحديث لإخوته في ذهابهم مع الجموع الصاعدة لأورشليم، متنحيا عنهم في الذهاب، مقدما ما سبق وقاله من حيث الوقت المعين لذهابه، ولنا أن نستنتج أنه مكث في الجليل حوالي 4 أيام، حتى انتصف العيد، قبل أن يظهر في أورشليم
صعد السيد المسيح في الخفاء لأورشليم، وهو تصرف في غاية الحكمة. فلو كان صعد مع الجموع، لكانوا نادوا به ملكا، كما حدث في زيارته الأخيرة لأورشليم، وهذا بخلاف التدبير الذي قصده، وخاصة أن ساعته لم تأت بعد.
† ليتنا نتعلم في صلواتنا انتظار استجابة الله في الوقت الذي يراه، فإن الله له تدابير لحياتنا لا نصل إليها؛ بل لنعلم أنه لكل شيء تحت السماء وقت.
ويصور أيضًا القديس يوحنا حال اليهود الذين كانوا يترقبون ظهور المسيح مع أول أيام العيد، بسؤال: "أين ذاك؟"، الذي يحمل في المعنى الاحتقار والحقد، أكثر من الانتظار باشتياق. وهذا يكشف لنا أن الانتظار كان فيه شيء من التربص، وهو تأكيد لحكمة المسيح في اختيار الوقت المناسب للذهاب.
تضاربت الآراء حول شخص المسيح، فالبعض يرون "إنه صالح"، أي مستقيم ولا عيب فيه؛ والآخرون يرون إنه "يضل الشعب"، أي يخدعه. ويجمع القديسون أن الفريق الآخر، هم الحاسدون من أنصار الكتبة والفريسيين، الذين وبخهم المسيح. إلا أنه لم يجسر أحد أن يتكلم في ذلك علانية، بل معظم الأحاديث كانت على مستوى مجموعات صغيرة، وفي سرية، وذلك بسبب الخوف من رؤساء وولاة اليهود (الكهنة والفرسيون)
/خادم كلمة الربّ/