إجابة المسيح هنا كانت للتلميذين، وكذلك لليونانيين والجمع المستمع، وكانت بداية التنبؤ بقرب الخلاص الذي يقدمه المسيح.
ولما كانت أفكارهم محصورة في الملكوت والمجد الأرضى، بدأ المسيح حديثه بما هو في أذهانهم، ليرفعهم للفهم الروحي.
وتعبير "ليتمجد ابن الإنسان"، معناه إعلان مجده الأول السمائي، الذي كان مخفيا بالتجسد.
وطريقة إعلان هذا المجد هي الصليب، ثم القيامة، فالصعود.
هذه الآية توضيح لطريقة تمجيد ابن الإنسان، فاستخدم السيد المسيح هنا مثلا بحبة القمح التي تشير إليه في تجسده، فكل مجد وقيمة هذه الحبة في أن تدفن في التربة ويكتنفها موت الأرض، فالذى يراه الناس موتا لحبة القمح، هو مصدر الحياة نفسها، إذ سوف تقوم وتحيا من موتها.
وعند قيامها، فهي مصدر الشبع والحياة لكل من يقتات بها. وهذا ما أراد أن يوضحه المسيح للجموع، بفاعلية موته ومنحه الخلاص لكل من يقبل فدائه على الصليب، ويأكل جسده في التناول.
بعد أن تحدث المسيح عن نفسه، يوجه تعليما روحيا عاما، يعتبر من قوانين الحياة المسيحية، فكل ارتقاء لمستوى روحي أعلى، يتطلب خسارة في الماديات، وهي الأقل، فالحياة الأبدية بكل مجدها وبهائها، تتطلب التضحية بكل ما يعيق الوصول إليها.
فإذا كان الجسد، أو شهوات النفس المختلفة، تربط الإنسان بالعالم وتفقده السماء، فعلى الإنسان إذن أن يقاوم، بل ويضحي بأي شيء، حتى حياته نفسها، من أجل الميراث الدائم والأبدي؛ وهذا ما قصده السيد المسيح بكلمة "يهلكها".
وهذا الإيمان هو ما جعل أباؤنا الشهداء القديسون يُقْدِمُونَ على الموت بمنتهى الشجاعة واللامبالاة من سطوة الحكام؛ فمن يضع الحياة الأبدية نصب عينيه لا يخشى شيئًا.
أي من أراد أن يكون مسيحيا حقيقيا، وتلميذا وخادما لوصية المسيح، عليه أن يتبع سيده ومعلمه في كل ما فعله.
فإذا كان السيد قد بذل نفسه وأماتها من أجل فداء الآخرين، فعلى الخادم الأمين الاقتداء به.
وقد ربط المسيح ذلك أيضًا بالمكافأة، وهي الوجود الدائم للمسيحي الأمين في حضن سيده، وتكريم الآب السماوي له.
ولا نعتقد أن هناك لغة أو تصور تقرب لنا معنى هذا الإكرام الأبدي، غير المحدود بالزمن أو الحجم، سوى الثقة في كل ما يقوله السيد المسيح، في أن ما يتركه الإنسان هنا، أو يتحمله من أجل المسيح، له هذه المكافأة وهذا الإكرام.
المسيح يتحدث عن موته وآثاره :
المقصود بالنفس هنا هو مركز الانفعالات العاطفية، المسيح يعلم ساعة صلبه وموته واقترابها، لكنه كإنسان كامل، يعبّر عن مشاعره الإنسانية بالاضطراب، فهو بين أمرين هامين: أمر ترفضه النفس البشرية العادية، وهو الموت الذي سيخضع له ليتمم فدائنا، ثم ينتصر عليه بقيامته لإتمام خلاصنا، وبين ما تريده الروح البارة والخاضعة للآب السماوي في تدبيره.
ولهذا، كان الجزء الثاني من الآية "ماذا أقول... نجنى من هذه الساعة؟" وكأن الروح تعلم، وتجيب وتقوّى النفس على انفعالها، مؤكدة أن من أجل هذه الساعة، التي تتعلق بها كل البشرية، أتى المسيح.
يقول القديس ذهبي الفم وأغسطينوس أن إرادة الابن هي تمجيد اسم الآب، والطريق هو الموت والألم وفداء البشر الهالكين، واقتيادهم للسماء، فيمجدون اسم الآب على الأرض، ثم في السماء، تمجيدا أبديا، فيرد الآب على الإبن :
"مَجَّدْتُ وأُمَجِّدُ"، ومعناها أنه من خلال حياة المسيح وشهادته المتكررة عن الآب، وتعاليمه عن العلاقة السرية بينهما، وصنعه المعجزات، مجد الابن الآب بهذه الطريقة، ومجد الآب ابنه الوحيد بالشهادة له أيضًا. فالآب أعلن مجد الابن:
أولًا : في المعمودية (مت ٣: ١٧).
ثانياً : في التجلي (مت ١٧: ٥).
ثالثاً : في هذه الآية "مَجَّدْتُ وأُمَجِّدُ".
فالمجد بين الآب والابن مجدا واحدا ومتبادلا (يو ١٣: ٣١، ٣٢؛ ص ١٤: ١٣).
"وأُمَجِّدُ": تعني صعود المسيح للسماء.
أما الجمع، فعندما سمعوا هذا الصوت، اعتقد البعض، بسبب المفاجأة وعدم التوقع، أنه صوت رعد؛ أما البعض الآخر الذي ميز الكلمات، فظنوا أنه صوت ملاك من السماء.
أجاب المسيح على من ظنوا أن ملاك يكلمه، قائلًا إن هذا الصوت لكم أنتم لتؤمنوا، فأنا لست في احتياج له، ولا أشك في مجد اسم أبى أو مجدى، بل لإزالة شكوكم أنتم نحوى.
/خادم كلمة الربّ/