إنّه شحّاذ يعيش حالة الفقر المدقع والحرمان، والحاجة الدائمة.
لا مستقبل له ولا أحلام. ونصيبه حياة فاشلة.
وهو أعمى يعيش في ظلمة دائمة، لا تعرف النور.
الأمر الذي زاده فقرًا وعوزًا. يسمع ولا يرى، ويتوق إلى معرفة ما يجري من حوله.
ويعيش على قارعة الطريق، مهمَّشًا، وكأنّه في حالة قطيعة مع الجميع.
بهذه الأوصاف يعتبر “بن طيما” الأعمى “ميتًا” إنسانيًّا واجتماعيًّا ودينيًّاً ، كان أهل أريحا منشغلين بحدث زيارة يسوع.
ولم يفكّر أحد بأعمى البلدة، لقلّة إيمانهم بأنّ يسوع يستطيع أن يفتح عينيه.
لم يوجد بينهم أناس مثل أولئك الرجال الاربعة الذين حملوا مخلّع كفرناحوم إلى يسوع، فشفاه نفسًا وجسدًا “لمّا رأى إيمانهم”.
الإيمان فضيلة صعبة لأنّه كما يقول بولس الرسول “الرجاء حيث يبدو لا رجاء”.
لا يدخل الإيمان ضمن المنطق البشري الحسابي.
هل يُعقل أنّ أعمى من مولده يستطيع أن ينظر؟ لذلك لم يفكّر أحد من تلاميذ يسوع والجمع الغفير بإمكانيّة شفاء أعمى أريحا المعروف.
بل عندما صاح إلى يسوع ملتمسًا الشفاء من عماه، “انتهره الكثيرون ليسكت”.
وكأنّه لا يحقّ له أن يرفع بلواه.
لكن الأعمى كان مؤمنًا حقًّا بأنّ يسوع قادر أن يمنحه النظر، بمجرّد سماعه “أن يسوع الناصري الذي يمرّ”.
فناداه باسمه المسيحاني الملفت: “يا يسوع ابن داود، ارحمني”.
مناداة الأعمى سقطت في قلب يسوع، بين جميع أصوات الناس وضجيجهم، وهم يسيرون وراء يسوع وحوله وأمامه، لأنّها مناداة مسّت صميم رسالته.
فالأعمى استعمل كلمتين لم يسمعهما يسوع من أحد قبله: “يا ابن داود، ارحمني!”“يا ابن داود” تعني أيّها المسيح المنتظر، الآتي من سلالة داود الملك، كما بشّر الملاك مريم بأنّ “المولود منها سيكون عظيمًا وابن العلي يُدعى، ويعطيه الربّ الإله عرش داود أبيه” ( لوقا ١ / ٣٢ ).
“ارحمني”! طلب الأعمى من خلال ندائه رحمة الشفاء من العمى.
فالرحمة هي رسالة المسيح الآتي، كما تنبَّأ عنها أشعيا النبي قبل ٦٠٠ سنة، وأعلن الربّ يسوع إتمامها فيه، ذات سبت في مجمع الناصرة عندما قرأ: “روح الربّ عليّ: مسحني لأبشّر المساكين، وأرسلني لأنادي للعميان بالبصر”.
أجل هذه الصرخة المميّزة، التي مسّت قلب يسوع في الصميم، تذكّرنا بلمسة المرأة النازفة لطرف ثوب يسوع، لأنّها لمسة إيمان عميق شفاها، فقال الربّ: “إنّ قوّة خرجت منّي”.
طلب يسوع أن يدعوا الأعمى إليه.
وبدلًا من تأنيبه ليسكت، وجّهوا إليه كلمة تشجيع: “تشجّع. قمْ! إنّه يدعوك”.
فطرح رداءه، ووثب نحو يسوع. فوجّه إليه يسوع سؤالًا جوابه معروف وواضح، لكن الغاية منه أن يعلن الأعمى مطلبه الإيماني أمام الجميع.
هكذا فعل الربّ عندما سأل “مَن لمسني”؟ في حالة شفاء المرأة النازفة.
فأجاب الأعمى: “رابوني” وهذا أيضًا لقب خاصّ بيسوع أي “يا معلّمي: أن أبصر”.
فقال له يسوع: “إذهب، إيمانك خلّصك”! فأبصر للحال وتبعه في الطريق.
لم يقل له يسوع: “أَبصِر”، كما قال للأبرص: “كن طاهرًا”.