بعد أن أنشأ الرب يسوع ليلة آلامه وموته، سرَّ القربان، لكي يجعل ذبيحة صلبه لفداء الجنس البشري، ووليمة جسده ودمه لحياة الانسان، حاضرتَين في حياة الكنيسة، بتأوين الآن وهنا، أسّسَ سرَّ الكهنوت لكي بواسطة خدمة الكهنة يحقِّق هذه الذبيحة وهذه الوليمة، بقوله: “إصنعوا هذا لذكري”. ثم قام الرب وغسل أرجُلَ التلاميذ، كهنةِ العهد الجديد، وأقامهم بذلك خدّاماً لمحبَّتِه بتواضعٍ دائم.
يحتفل الكهنة اليوم بعيد تأسيسهم، والجماعة المسيحية بعيد فدائها وتبريرها، والكنيسة بعيد ميلادها من سرِّ الافخارستيا صانعها.
وكلهم أضحوا في حالة البذل والعطاء، ماذا صنع يسوع الرب في مثل هذا اليوم الأخير من حياته التاريخية، قبل فصحه عابراً من عالمنا إلى الآب بموته وقيامته، وتركه لنا وصية وطريقاً لفصحنا وعبورنا؟
في عشائه الفصحي الأخير، أخذ يسوع خبزاً وقال: “خذوا كلوا منه جميعكم هذا هو جسدي يُبذَلُ لأجلكم”.
ثم أخذ كأس الخمر وقال: “خذوا اشربوا منها جميعكم هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُراقُ من أجلكم ومن اجل الكثيرين لمغفرة الخطايا”.
يسوع، حملُ الفصح الجديد، أعطى ذاته مرةً ذبيحة فداء عن الجنس البشري بأسره، ووهبه ذاته تحت شكلَي الخبز والخمر، وليمة سماوية للإنسان من أجل حياة العالم، لكن الذبيحة والوليمة مستمرّتان في القداس المعروف بالليتورجية الإلهية، كلَّ مرة يُقيمها كاهن على مذابح الأرض.
من اجل خطايا كلِّ إنسان على مرِّ العصور، يُقدِّم ذاته ذبيحة فداء، ومن اجل تبرير كلِّ إنسان بالحياة الجديدة، ويُقدِّم وليمة جسده ودمه القربانية.
هذا ما أوصى به الكهنة ليصنعوه لذكره.
عندما يقول الكاهن بلسان المتكلِّم ما قاله يسوع، يكون المسيح الكامل، الرأس مع الجسد هو الذي يتكلَّم.
فعبارة “إصنعوا هذا لذكري” تصبح “إصنعوا أنتم بدوركم ما صنعت أنا”، أي أبذلوا ذواتكم مثلي في سبيل الاخوة! إشهدوا لمحبتي في البذل والتفاني والعطاء.
إغفروا وسامحوا وتصالحوا، في إطار إنشاء سرِّ القربان وتأسيس سر الكهنوت قام يسوع بعمل نموذجي، فغسل أرجل التلاميذ المرسومين كهنة للعهد الجديد القرباني.
وأراد بذلك علامة ودعوة.
أما العلامة فهي أنهم أصبحوا أنقياء بنعمة الغفران وقد غسلهم بدمه وبنعمة الحياة الجديدة التي تناولوها في وليمة جسده الافخارستي، وأنَّ نصيبهم في الخلاص والمشاركة بكهنوت المسيح مرتبط بهذه التنقية، على ما قاله الرب لبطرس: “إذا لم أغسلك، فليس لك نصيبٌ معي”.
أما الدعوة فلكي يصنعوا بعضهم لبعض ما صنعه هو، أي الخدمة بكلِّ ما تقتضي من تواضع وامِّحاء : “لقد أعطيتكم بهذا مثالاً، فكما صنعت لكم، تصنعون أنتم أيضاً”.
هذا هو الكهنوت في جوهره ورسالته.
في هذه الليلة المقدسة يقوم المؤمنون والمؤمنات بمبادرتَين: زيارة سبع كنائس، والسهر أمام القربان المقدَّس المعروض على مذبحٍ خاص.
المبادرة الأولى إحياء ذكرى الأسرار السبعة التي أسسها المسيح الرب، في ذاك الخميس المسمَّى “خميس الأسرار”.
الأسرار كلها تنبع من سرِّ القربان، ويصنعها سرُّ الكهنوت.
في هذه الزيارة نجدِّدُ إيماننا بينابيع خلاصنا، ونلتزم بالانفتاح على هذه الينابيع بممارستها، ولاسيما في سرَّي التوبة والقربان.
والمبادرة الثانية إحياء ذكرى ليلة “الخميس - الجمعة” التي قضاها يسوع في بستان الزيتون بالصلاة والألم والحسرة والدموع، وبتسليم الذات كاملةً لمشيئة الآب.
نذكر في هذه الليلة كل المتألمين في أجسادهم وأرواحهم ونفوسهم، الذين هم في “سهر” دائمٍ مع المسيح المتألم من أجل الكنيسة. آمــــــــــــين.