كلمات يسوع الأخيرة من على الصليب أكّدت لنا أن “كل شيء يصبح سهلاً على المحبة”.
لقد واجه بالغفران الذي يبرّر اولئك الصالبين القساة، الهازئين به وبالوهيته، والتافلين بوجهه. كان جوابه صلاة حب للآب :” يا أبتِ اغفر لهم، لأنهم لا يدرون ما يفعلون”.
ولأن الحب أقوى من الاساءة والخطيئة، غمر يسوع برحمة غفرانه اللص اليمين التائب، وأشركه بمجد قيامته، اذ بموته عبر إلى الآب :”اليوم تكون معي في الفردوس”.
وكما بفعل حبٍّ، ارسل الآب ابنه الوحيد مولودا من مريم بكمال محبة الروح القدس، فصار انسانا، هكذا الرب يسوع، بفيض من حبّه ولدنا جميعا بمعمودية دمه، وجعلنا جسده، فأضحى يسوع التاريخي “المسيح الكلي”، حسب تعبير القديس أغوسطينوس ، وحوّل آلام مريم امه، امرأة العهد الجديد، آلام مخاض، وجعلها اما لنا بشخص يوحنا التلميذ الطاهر، وأما للكنيسة، جسده السرّي: ” يا امرأة، هذا ابنك! يا يوحنا، هذه امك!”.
ولأن الحب لا يقف عند حدود، ولأن حسبه أن يحب، مزج يسوع عطشه المادي إلى الماء بعطشه الروحي إلى مزيد من الحب الخلاصي، قال : “أنا عطشان”.
لكن الجنود بادلوا حبّه بمرارة الخلّ “فأدنوا من فمه اسفنجة مبتلّة بالخلّ”.
ولما عاش في تلك اللحظات الشعور العميق بأنه “متروك” من الارض ومن السماء، وهو معلّق بينهما على خشبة العار، صرخ بصوت عظيم إلى الآب :” إلهي، إلهي، لماذا تركتني” ؟.
واذ شعر ان يد الآب تسند يديه المسمّرتين، كما يصوّره الرسّامون الكنسيون، “ترك” ذاته، واستودعها بين يدي الآب: “يا أبتِ في يديك أترك روحي”.
ولأن الروح القدس، محبة الله المسكوبة في القلوب، هو الذي ملأ بشرية يسوع، وأحياها بالحب، “فأحب يسوع خاصته الذين في العالم إلى أقصى الحدود”، أفاض يسوع المائت على الصليب هذا الروح عينه لكي تولد البشرية الجديدة فتحيا بهذا الحب الإلهي.
وكانت آخر كلمة ليسوع الفادي :” لقد تمّ كل شيء”، أي لقد بلغ الحب كماله، فنفخ في العالم روح المحبة، و”أسلم الروح”.
وعندها انشقّ حجاب الهيكل من فوق الى اسفل، وصارت زلزلة عظيمة، واحتجبت الشمس” ، للدلالة ان الماضي زال، وبدأ عهد جديد هو عهد المحبة التي تدعو كل انسان وتعضده ليعيش اتحاده العميق بالله والوحدة مع جميع الناس.
أجل “كل شيء يصبح سهلا على الحب”.
ليست آلام يسوع بطولة.
بل حبّه هو البطولة.
فالآب، يقول القديس توما الاكويني، أعطى يسوع إرادة قبول الآلام بكلمة “نعم”، مالئا قلبه من المحبة، وبشريته من الروح القدس.
هذا ما كشفه الرب يسوع نفسه عندما قال :” هكذا أحب الله العالم حتى انه جاد بابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابدية”.
نعود في ختام هذه الرتبة المقدسة إلى عائلاتنا ومكان وجودنا وعملنا وإلى حالتنا الخاصة، حاملين معنا قوة الحبّ الذي يجعل كل شيء سهلا: الحياة الزوجية، الابوّة والأمومة، انجاب الاولاد كما يريدهم الله وتربيتهم، تحمّل المرض المزمن والاعاقة، الظلم والاستبداد، الالتزام بخدمة الشأن العام بشفافية وتجرّد، توجيه العمل السياسي إلى خدمة كل مواطن مع توفير الخير العام بكل مضامينه، السعي الدائم إلى كمال المحبة في الحياة المكرسة، والامانة الكاملة لشخص المسيح وانجيله وتعليم الكنيسة في خدمة الكهنة.
نعم! “كل شيء يصبح سهلا على الحب”.
نسجد لآلامك ايها المسيح، لأنك بصليبك المقدس خلّصت العالم. آميـــــــن.