قد بلغ ملء الزمن لتحقيقه بعد أن هيّأه الله بابراهيم وموسى والأنبياء والمزامير.
وأعدّ مريم إبنة يواكيم وحنّة من الناصرة، لتكون أم ابنه الازلي فتعطيه جسداً بشرياً ليتمم عمل الفداء والخلاص.
ما يعني أنّ الله هو سيّد التاريخ ، وأن الإنسان، كل إنسان معاون له في صنعه.
هذا ما يولي كل شخص بشري كرامة وقدسية، مريم العذراء فهي المثال بامتياز إنّ مضمون بشارة الملاك لمريم نعلنه في قانون الإيمان: ” ونؤمن بربّ واحد يسوع المسيح، إبن الله الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وصار انساناً”.
انه لسرّ عظيم: ملء الالوهة تسكن في جسد بشري! يا لمحبة الله الفائقة للبشر، ولتواضعه العجيب!
ويا لقيمة الجسد البشري!.
لقد هيّأ الله مريم، نفساً وجسداً، لتكون مسكن القدوس. فحيّاها الملاك مهنّئاً، لأنها “مملوءة نعمة” ( لوقا ١ / ٢٨ ).
ذلك أنها افتُديت منذ اللحظة الأولى للحبل بها، فعُصمت من الخطيئة الأصلية، الموروثة من آدم وحواء، التي يولد فيها كل كائن بشري، وذلك بإنعام من الله القادر على كل شيء، واستباقاً لاستحقاقات يسوع المسيح مخلص الجنس البشري.
وهي عقيدة إيمانية أعلنها البابا الطوباوي بيّوس التاسع في ٨ كانون الاول سنة ١٨٥٤ إن قداسة مريم الكاملة أتتها من المسيح، الذي منه كل بركة روحية في السماء، والذي به ومن أجله اختارها الله، في سرّه المكتوم منذ الدهور، لتكون مقدسة وبدون عيب أمامه، بحبّ كبير.
في الواقع، بفضل انتصار المسيح على الخطيئة، وعصمتها من دنس الخطيئة الأصلية، لم ترتكب، بنعمة خاصة من الله، أي خطيئة شخصية طيلة حياتها على الأرض، كما علّم المجمع التريدنتيني.
فكانت “حواء الجديدة” التي صارت سبب خلاص، فيما حواء الأولى كانت سبب هلاك، كما ردد آباء الكنيسة: “الموت على يد حواء، والحياة على يد مريم” (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، ٤٩٤ ).
لقد أبدعها الروح القدس، وجعلها خليقة جديدة.
ولذلك، لم تعرف فساد القبر والانحلال بالموت، بل رفعها الله بنفسها وجسدها إلى مجد السماء.
هذه عقيدة إيمانية أعلنها البابا بيوس الثاني عشر في أول تشرين الثاني ١٩٥٠ حيّاها وهنأها الملاك جبرائيل بالقول: “يا ممتلئة نعمة الرب معك” ، للدلالة أنّ الله ساكن فيها، أنها ممتلئة نعمة تأتيها من حضور مَن هو ينبوع كل نعمة.
ولذلك تسمّيها الكنيسة “تابوت العهد”، المكان حيث مجد الله يسكن.
إنّها “مسكن الله مع البشر” ( رؤيا ٢١ / ٣ ).
هذا الإله الساكن فيها سيأخذ منها جسداً، وبالتالي هي بالتمام والكمال “ممتلئة نعمة والرب معها” (كتاب التعليم المسيحي، ٤٩٠ و ٢٦٧٦ ).
وبقوة الروح القدس تحبل مريم بابن الله وكلمته ( لوقا ١ / ٣٤ – ٣٥ ).
إنّ رسالة الروح القدس مرتبطة دائماً ومرتّبة لرسالة الإبن، كما يقول الرب يسوع نفسه: “جميع ما هو للآب هو لي، ولذلك إنّه يأخذ مما لي ويخبركم به” (يوحنَّا ١٦ / ١٥ ).
وبما أنّ الروح القدس هو الرب معطي الحياة، فقد أرسل ليقدّس حشا العذراء مريم، ويخصبه إلهياً، ويجعلها تحبل بابن الآب الأزلي في بشرية معطاة منها.
وابن الآب هذا هو “المسيح” أي الذي مُسح بالروح القدس، منذ بداية وجوده البشري.
وقد أعلن ذلك تباعاً للرعاة والمجوس ويوحنا المعمدان والتلامي.
أنّ الآب السماوي الـقـُدُّوس وجد في مريم “مكان سكناه” حيث يسكن ابنه وروحه القدوس بين البشر. آمــــــــــــين.