"أنا هو خبز الحياة"
يكرر المسيح ما أعلنه في الآيات السابقة وهو ما لم يفهمه اليهود، وتذمروا عليه. وهذه الآية، تعتبر مقدمة لما سوف يعلنه السيد من أسرار إلهية تتعلق بهذا الخبز.
† أخي الحبيب...
فلنتعلم من السيد المسيح هنا ضرورة التمسك بالإيمان السليم، فالسيد المسيح أطال أناته، وأخذ يشرح، وسوف يكمل شرحه، ولكنه لم يتنازل أبدا، تحت وطأة الضغوط أو التذمر، عن التعليم السليم.
وهكذا كانت كنيستك على مدار العصور، من أيام الرسل الأطهار، الذين حافظوا على الإيمان نقيا سليما، كما سلمه المسيح تماما، بلا تفريط ولا تبديل...
إذا كان المن هو أعظم العطايا الإلهية التي كان يفتخر بها إسرائيل، يوضح المسيح هنا أنه لم يكن سوى طعاما لإحياء الجسد، الذي نهايته الموت على كل الأحوال.
وهذه الآية تعتبرمقارنة، ومقدمة لحديث طويل آت عن الخبز الحي الحقيقي...
يكشف لنا السيد المسيح هنا أعظم أسرار وعطايا العهد الجديد أنه هو الخبز النازل من السماء، في إشارة واضحة لتجسده، وفي كونه مصدر حياة، فلا موت لكل من يأكله.
فالمن إذن في العهد القديم، كان رمزا يعطى الحياة للجسد. أما المسيح - خبز الحياة - فمن يأكله يحيا إلى الأبد، لأنه غذاء الروح، بعكس ما أراد أو فهم اليهود.
وعبارة "يحيا إلى الأبد"، معناها أن الموت الجسدي لا يقدر أن يؤذيه. وملخص هذا، أن المسيح هو الإله الحي، ومانح الحياة، ويقدم جسده ودمه كخبز الحياة، فكل من أكل من هذا الجسد وشرب من هذا الدم، اتحد بمعطى الحياة وواهبها. فكيف يموت إذن؟ بل الموت الذي فينا، يصيرحياة باتحادنا بهذا الخبز السماوي.
† هكذا نفهم، مدى اهتمام الكنيسة بسر التناول الأقدس، ودعوتها المستمرة لكل أبنائها بالاشتراك فيه، لأنه هو الحياة الأبدية... هو الاتحاد بالمسيح... هو مغفرة الخطايا.
"خاصم اليهود":
أي انقسم اليهود بين مؤيد ومعارض لما أعلنه المسيح من أنه خبز الحياة، وجسده المبذول من أجل خلاص العالم. وعدم الفهم هذا، يذكرنا بكل من نيقوديموس (يو 3) والسامرية (يو 4)، في عدم إدراكهم للأسرار الإلهية. وتعبير "كيف يقدر؟!"، يحمل أيضًا شيئًا من التهكم على ما قاله المسيح.
إلا أن المسيح يجيبهم بما هو أكثر صعوبة، فليس أكل الجسد فقط، بل شرب الدم أيضا، واستخدام المسيح تعبير "ابن الإنسان"، هو إشارة لتجسده وموته؛ وبموته كذبيحة يبذل جسده من أجل حياة العالم. وكما كان خروف الفصح ذبيحة ارتبطت بالأكل منها بخلاص ونجاة كل شعب إسرائيل، فهكذا جسد المسيح المبذول يعطى النجاة والخلاص. أما الممتنع والرافض لهذه الذبيحة الحية، فهو ميت روحيا في هذه الحياة، وكذلك في الدهر الآتي.
† تعال أيها الحبيب وتمتع بأعظم العطايا الإلهية، ولا تحرم نفسك من الحياة في المسيح وبالمسيح، فأنت شهوة قلبه، وموضوع حبه؛ فلا تحرم نفسك منه، ولا تدعه ينتظرك.
ذبيحة المسيح، جسده ودمه وخلاصه، مُنِحَ لكل العالم. ولكن، لن يتمتع بالحياة الأبدية، إلا من أكل من هذه الذبيحة. إذن؛ فالتناول من جسد الرب ودمه، صار شرطا لهذا الخلاص والميراث الأبدي.
أي ليس رمزا ولا صورة، بل حقيقة. وهذه الآية، هي أبلغ الآيات التي ترد على كل من ادعى أن ذبيحة المسيح، في سر التناول الأقدس، ليست إلا رمزا أو ذكرى، متجاهلين تأكيد المسيح بأن جسده مأكل حق ودمه مشرب حق. ولا نعرف ماذا يطلبون أن يقول المسيح أكثر من هذا حتى يؤمنوا؟!: هبة جديدة يعطيها التناول من جسد المسيح ودمه، وهي هبة وعطية الثبات، فالغصن المقطوع لا قيمة له ولا حياة فيه. ولكن، إن ثبت الغصن في الأصل كان الثمر، والمسيح نفسه القائل: "بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (ص 15: 5)، فكما تسرى عصارة الحياة إلى أغصان الشجرة، هكذا دم المسيح في اجسادنا يعطينا ثباتًا واتصالًا ونموًّا...
أبى مصدر الحياة وأنا الحياة ذاتها (كأن نقول: الآب هو العقل، والابن هو التفكير.) وأنا أعطى الحياة الروحية الأبدية لكل من يأكل ذبيحة جسدي.
يختم الرب يسوع حديثه هنا عن جسده ودمه، بالعودة إلى بداية الحديث في المقارنة بين عطية طعام الجسد "المن"، وبين العطية الأعظم، أي جسده المبذول من أجل حياة العالم. وهذه الآية تأتي كملخص لكل ما قيل، وتأكيد لما سبق..
† إلهي الحبيب... نسجد لك شكرا على عظم غنى عطاياك التي هي فوق عقولنا وإدراكنا، ولا يفهمها إلا من ولد من الروح القدس بالمعمودية، هذا الذي ترنم به القديس أغريغوريوس في القداس الإلهي: "أنت الذي أعطيتنى هذه الخدمة المملؤة سرا... أعطيتنى إصعاد جسدك بخبز وخمر.".
نشكرك يا إلهنا، لأن في جسدك الحياة الأبدية، والقيامة الثانية ، الثبات فيك، والاتحاد بك مع الآب من جهة الحياة.
أعطنا ألا نفارق مائدة الحياة - مذبحك المقدس - حيث عطية جسدك الأقدس.
حرص القديس يوحنا أن يذكر أن هذا الحديث كله كان في المجمع، وقصد بتحديد المكان في نهاية الحديث، أن يعلن إنه لم يكن حديثا خاصًا للتلاميذ، بل هو إعلان لحقائق إيمانية على الملأ، أمام الكهنة وكل الشعب.
/خادم كلمة الربّ/