كنتُ كلّما مررتُ بذاك الشارع المجاور للجامعة أثناء تحضير رسالة الماجيستير وجدتُ نفس الفتاة تجلس وقد وضعت أمامها بعض أكياس المناديل بينما انشغلت هي بالكتابة في أوراق بيدها ، لم أهتمّ في البداية ومرّة بعد مرّة زادني الأمر فضولًا تُرى ماذا تكتب ؟!...
وقفتُ لأشتري منها مناديل وقلت ...
-ماذا تفعلين ...
أجابت دون أن تنظر ...
=أحاول إنهاء الواجب المدرسيّ قبل عودة أمّي ...
-وأين أمك !؟
=في إحدى البيوت المجاورة تمسح السلالم
-هل تذهبين إلى المدرسة !؟
=نعم ... فبعد وفاة أبي أصرّت أمّي على أن ندرس
-ألديكِ أخوات !؟
=نعم ثلاثة من الإناث .. وإثنين من الذكور ...
-أين هم !؟
=أختي الكبرى تجلس مع الصغار وتعدّ أعمال المنزل ريثما نعود في آخر النهار...
بينما يعمل أخي سالم في إحدى ورش السيارات ويعمل إبراهيم في مسح السيارات.
إستكملتُ الحديث معها كثيراً وحاولتُ أن أعطيها المزيد من النقود لكنها لم تقبل أبداً.
لكن عرفتُ من حديثها أنّها تدرس في مدرسة الحي في الصف الثالث الإبتدائي.
في اليوم التالي ذهبتُ إلى المدرسة وسألتُ عنها، رأيتها تجلس وحدها ليس لديها أي أصدقاء أو ربما ينفر الجميع منها كما أخبرتني المعلمة ، حتّى أنّ ملابسها تبدو قديمة لا تملك أي مصروف شخصي كزميلاتها ، على الرغم من كونها متميّزة جداً وذكيّة في دراستها.
أحزنني ذلك كثيراً فقدّمتُ إلى المديرة بعض المال وطلبتُ منها أن تكرّم هذه الفتاة في اليوم المقبل بإعتبارها طالبة مثاليّة وتقدّم إليها هديّة تشمل بعض الدفاتر والأقلام وما ينقصها في دراستها مع ثوب جديد ، وذلك لعفّة نفسها وعدم تقبّلها الصدقة من أحدهم ، لم تمانع المديرة في ذلك كما أنّها أمدّتني أيضاً بعنوانها كما طلبتُ منها.
عدتُ يومها إلى منزلي وبداخلي جزء كبير من الراحة لشعوري أنّها ستفرح كثيراً بذلك ، وبينما نتناول العشاء لم يكن زوجي على ما يرام حاولتُ أن أعرف ماذا يحزنه هكذا لكن لم يتحدث.
توقّعت كما لو أنّ أحداً من أهله حدّثه بشأن الإنجاب. الذي تأخّر أربعة أعوام - ولا يريد أن يخبرني كيلا أحزن.
في اليوم التالي وقبل ذهابي إلى الجامعة ذهبتُ إلى منزل الفتاة وأخبرتُ والدتها أنّي سأقدّم إليها في كل شهر مبلغ من المال لأجل دراسة إبنتها مع تأكيدي لها أنّ هذه جائزة من المدرسة لكونها طالبة مثاليّة.
فرحت الأم كثيراً بهذه المنحة وبقيتُ أنا على وعدي لطوال سنواتٍ كثيرة ، عشت هذه السنوات في سعادة كثيرة كان الخير يأتي إليّ من كل باب أقصده ، أنجبتُ إثنين من الإناث ومثلهم من الذكور ، حصلت على الماجيستير وتبعته بالدكتوراه.
ترقّى زوجي في عمله مرّات متكرّرة، تبدّلت حياتنا كثيراً كثيراً ولم يكن يعلم زوجي كيف ذلك ، بينما كنتُ أعلم أنّه سرّ الصدقة التي أقوم بها إلى هذه البنت وكلمّا إزددنا كلّما قدّمتُ إليها المزيد .
اليوم أراها تجلس بين طلّابي في كليّة الطب تُعد أكثرهنّ تفوّقاً وتميّزًا لا تعلم أنّي معها منذ طفولتها ولا تعلم أنّها سر كل ما وصلت إليه في حياتي.
#خبريّة وعبرة
/خدّام الربّ/
بقلم / ريم السيد