تُذكِرنا قراءة اليوم من العهد القديم أن داود خاف من تابوت العهد فأخذه إلى "بَيْتِ عُوبِيدَ أَدُومَ الْجَتِّيِّ" (٢ صموئيل ٦/ ٩) حيث حلّت البركة على عوبيد وكل بيته، حينها قرر داود أن يُصعد التابوت بموكب من التكريم والفرح الى مدينته وجعله في وسط الخيمة ليكون بركة له ولشعبه.
وتابوت العهد هو "صندوق خشبي صنعه موسى، طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف وارتفاعه ذراع ونصف.
وكان مصنوعًا من خشب ومغشى بصفائح ذهب نقي من داخل ومن خارج، ويحيط برأسه إكليل من ذهب فوقه غطاء من ذهب نقي" يحتوي في داخله على لوحي الوصايا وإناء المنّ وعصا هارون التي أفرخت.
رافق الشعب في ترحاله ومعاركه وتحرره وعبوره الى الحرية.
وهو "بركة" حيث حلّ تحلّ "البركة".
العذراء مريم هي تابوت العهد الجديد، حملت في داخلها أكثر من لوحي الوصايا وأهم من إناء المن وأقوى من عصا هارون، حملت يسوع المسيح إبن الله منذ الازل، ونقلت البركة الى نسيبتها أليصابات حيث التقى الطفل الإلهي مع أعظم مواليد النساء يوحنا المعمدان.
مع مريم إكتملت صورة تابوت العهد الجديد، فلم يعد مصنوعاً من أيدي بشر، لا من خشب ولا من ذهب ولا من زخرفات، بل من نفوس مؤمنة أصبحت مستعدة بنعمة فائقة أن تكون هياكل الروح القدس وسط العالم، وهذه ميزة ورسالة كل معمّد باسم المسيح.
يختصر بولس خصائص ومزايا تابوت العهد الجديد التي حفرها ونقشها وزخرفها الرب فينا بشكل مكثف على النحو التالي:
• "بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ" حتى أصبحنا قديسين تليق بنا الأقداس (إِلى القِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُم في أَفَسُسَ والأُمَنَاءِ في المَسِيح يَسُوع) .
هذا ليس فخرٌ بالذات ولا تبجّح مرضي بالهوية، إنما حقيقة ومسؤولية.
فالحقيقة مغروسة في نفس كل معمّد لأنه أصبح إبن الله بالتبني.
أما المسؤولية فتقع على عاتق كل من حلّت عليه تلك البركة يوم عماده ليحافظ عليها ويتاجر بها ويتقدس من خلالها.
• "ٱخْتَارَنَا فيهِ قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَم" فحياتنا ليست صدفة على هامش التاريخ ولا يمكن أن تكون، وليست تطوراً طبيعياً لسلسلة من المخلوقات.
بل كنا في فكره منذ الازل، أحبّنا فخلقنا دون عيب على صورته ومثاله.
لِنَكُونَ "في حَضْرَتِهِ قِدِّيسِين" فهو مصدر حياتنا وإليه نتوجه ونرتقي "لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ".
• "وقَدْ عَرَّفَنَا سِرَّ مَشِيئَتِهِ" وهي الحب حتى بذل النفس في سبيل الاحباء.
فجعل لنا مثالاً إبنه الوحيد "وفيهِ لَنَا الفِدَاءُ بِدَمِهِ، أَي مَغْفِرَةُ الزَّلاَّت".
أعطانا إمكانية التجدد والنهوض بعد كل سقطة، يفتح لنا الابواب المغلقة بعد كل فشل، والاهم أنه يقيمنا من الموت إن كان من صنع أيدينا أو من صنع الاعداء.
هو يعلم أن تتميم مشيئته يفوق طاقتنا البشرية على التحمل، فليس من السهل تقبل الاخر بعيداً كان أو قريباً، وليس من السهل محبة القريب فكيف هي الحال بمحبة الاعداء؟ أو المغفرة لكل من أخطأ وأساء إلينا؟! لذلك وهبنا نعمةً مجانية فائقة الحلاوة، ترافقنا وتهدينا وتجددنا وتقوي إرادتنا على فعل مشيئته "بِحَسَبِ غِنَى نِعْمَتِهِ، الَّتي أَفَاضَهَا عَلَيْنَا في كُلِّ حِكْمَةٍ وَفَهْم"
• "وفيهِ أَيْضًا ٱخْتَارَنَا مِيرَاثًا لَهُ" الابن يرث والده شرعاً وقانوناً إلا إذا حُرِم الميراث عقاباً له.
والإبن يرث مُلك والده من أملاك وأموال وعقارات وأسهم، أما الرب فقد اختارنا من قبل إنشاء العالم لنرثه هو شخصياً دون أي استحقاق.
ربما نشعر بعدم الأهلية والكفاءة لذاك الميراث أو عدم الأمانة لتلك النعمة لكن من المؤكد أن الرب كرّسنا ورثة له دون تردد ووهبنا نعمة الروح القدس "خُتِمْتُمْ بِالرُّوحِ القُدُسِ المَوعُودِ بِهِ" وباركنا بكل "بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ في السَّمَاوَاتِ في المَسِيح" وكل عقاب نستحقه على كل نقص أو خطيئة من صنع إرادتنا قد أزالها وغسلها بدمه على الصليب.
مريم هي تابوت العهد الجديد تزينت بالنعمة لا بل امتلأت منها، تلألأت بالتواضع أمام الحب العجيب، تكرّست لفعل مشيئة الرب دون تردد، أفرغت ذاتها من "الانا"، حملت في أحشائها الثمرة المباركة وأهدتها للعالم أجمع على الصليب.
ونحن على مثال مريم تابوت عهد الرب من لحم ودم وإرادة وليس من خشب صامت، وهبنا الرب نعمة البنوة فأصبحنا ورثته على الارض "لِنَكُونَ مَدْحًا لِمَجْدِهِ" نحن الذين ولدنا من أحشاء المعمودية "جَعَلْنَا في المَسِيحِ رجَاءَنَا" على مثال مريم سمعنا كلمة الحق أي إنجيل الخلاص آمنّا به وقبلنا أحكامه وسلكنا طريقه ونحن مستمرون رغم العثرات الكثيرة والذئاب المتوحشة، هو اختارنا ووعدنا وختمنا بالروح القدس "لِفِدَاءِ شَعْبِهِ الَّذي ٱقْتَنَاه، ولِمَدْحِ مَجْدِهِ".. آميـــــــن.
أحد مبارك
/الخوري كامل كامل/