لا ولادة دون ألم المخاض.
هذه حقيقة إنسانية عامة تعرفها كل إمرأة حبلت فوَلدت.
الولادة الروحية تتخطى حدود الولادة البيولوجية، ويرافقها ألم المخاض أيضاً.
فإذا كانت الام تشعر بالألم وقت الولادة وتعاني من تداعياتها، فالمولود من الروح هو الذي يعاني من الالم ساعة تحوّله.
أولى أوجاع مخاض الولادة الروحية هي الصلاة.
فالصلاة دون وجع تبقى خارجية ولا تُستجاب، لأنها تعبير كلامي على مستوى اللسان لا أكثر.
أما صلاة القلب المنسحق فهي أمرٌ آخر تأخذ الروح الى أقدام الصليب فتعانق المصلوب، تتحد معه في الالم والوجع، تشاركه الخيبات والسقطات والانحدارات ومن ثم الصعود معه والارتقاء فيه والانتصار بيمينه والقيامة في قلبه.
تلك الصورة جسّدتها "حنة" والدة "صموئيل" التي "صَلَّتْ إِلَى الرَّبِّ في مَرارةِ نفْسِها وَبَكَتْ بُكَاءً" لأنها ذاقت طعم الاهانة القاسية والجارحة لحدود الموت نتيجة عقرها البيولوجي، فتوجهت بكل ضعفها وألمها وانسحاقها الرب وَنَذَرَتْ نَذْراً وَقَالَتْ: «يَا رَبَّ الْقُوّات، إِنْ أنتَ نَظَرْتَ إلى بؤسِ أَمَتِكَ، وَذَكَرْتَنِي وَلَمْ تَنْسَ أَمَتَكَ وأَعْطَيْتَ أَمَتَكَ مولودًا ذكرًا، أُعْطِهِ لِلرَّبِّ لكُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ، وَلاَ يَعْلُو رَأْسَهُ مُوسًى» (١ صموئيل ١ / ٩ - ١١).
استجاب الرب صلاتها، فأوفت بنذرها وكرّست مولودها الجديد للرب، بعد أن خالفت زوجها ولم ترافقه بالصعود الى الهيكل وانتظرت الوقت المناسب لتكريس مولود الجسد مولوداً للروح.
يوضح بولس في الرسالة الى أهل غلاطية أن مولود الجسد يمثل الشريعة - صحراء النفس- اليابسة والجافة والمستعدة دائما لفعل الشر إنسجاماً مع طبيعتها.
مولود الجسد يكون من أمٍ جارية مستعبدة للشهوات، مسجونة بالعادات والأطباع الحادة، مغلقة على "الانا" تعتاش منها وتتحرك في دائرتها المقفلة على الموت وعفن القبور.
أما مولود الروح فهو إبن الام الحرّة - المتحررة من الشريعة والناموس بحسب العهد الجديد، عهد الحب، إبن المعمودية الذي ولد على رجاءٍ وإيمانٍ ومحبة."فإِنَّهُ مَكْتُوب: كَانَ لإِبْراهيمَ ٱبْنَان، واحِدٌ مِنَ الجَارِيَة، ووَاحِدٌ مِنَ الحُرَّة" الجارية تلد عبداً، والحرّة تلد إبناً وريثاً. الادمان عبودية، والاجهاض عبودية، والشذوذ عبودية، الكذب والنفاق والحروب والمؤامرات والسرقة وقتل الفرح والأمل ونحر السعادة..كلّها وجوه العبودية التي تحبل من الشهوة وتلد الموت!!
لكن الحب والغفران والفن والجمال والارتقاء وكل أوجه السعادة والكرامة الانسانية هي ميزة مولود الروح الذي وُلد من الحرّة "أَمَّا الَّذي مِنَ الجَارِيَةِ فقَدْ وُلِدَ بِحَسَبِ الجَسَد، وَأَمَّا الَّذي مِنَ الحُرّةِ فَبِقُوَّةِ الوَعْد"..
مولود الجسد يمثل الصحراء وما فيها من موت وجفاف أخلاقي وتصحّر الابداع الانساني..
مولود الجسد يُمثل "أُورَشَليمُ العُلْيَا فَهِيَ حُرَّة، وهِيَ أُمُّنَا" هناك الفرح لكل عاقر والنجاح لكل مجتهد والتعزية لكل مجروح والمأوى لكل شريد ومنبوذ لأَنَّهُ مَكْتُوب: «إِفْرَحِي، أَيَّتُهَا العَاقِرُ الَّتي لَمْ تَلِدْ؛ إِنْدَفِعِي بِالتَّرْنِيمِ وَ ٱصْرُخِي، أَيَّتُهَا الَّتي لَمْ تَتَمَخَّضْ؛ لأَنَّ أَولادَ المَهْجُورَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَولادِ المُتَزَوِّجَة». فأبناء الروح هم الاكثرية طالما أن الانسان لا زال حيّا في العالم.
لكن المعركة أيضاً لا زالت قائمة ومشتعلة بين أبناء الجسد وأبناء الروح.
من هنا ننتظر ولادة روحية جديدة لكلّ منّا، قد تكون الان أو يفوت الأوان.
لكن تجربة زكريا تشجعنا وتؤكد لنا أن العمر ليس له أهمية والولادة الروحية لا تخضع لقوانين الجسد بل لقوانين الروح التي تتخطّى المنطق البشري.
بعد بشارة زكريا الشيخ الطاعن في السنّ صمت ودخل في رياضة روحية طويلة هيأته للدخول في سرّ العهد الجديد، سر الولادة الروحية، فخالف الشريعة وكتب إسم الولد يوحنا، عكس سلوكه في الهيكل.
دخل في سرّ العهد الجديد وانتقل من عبودية الشريعة والناموس (إبن الامة) الى حرية أبناء الله (إبن الحرة).
لم تكن الولادة ليوحنا (الله تحنّن) بل لزكريا أيضاً ولزوجته وكل محيطه ومن ثم لكل الشعب الذي خرج الى البرية لرؤية أعظم مواليد النساء يُعمّد الناس معمودية التوبة في نهر الاردن، فكانت بداية مسيرة مشروع إرواء الرمال وتحويل صحراء النفوس اليابسة الى جنائن خضراء التي دشّنها يسوع على الصليب..
مولود الجسد يكون " إِنْسَانًا وَحْشِيًّا، يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْه»." (تك ١٦ / ١٢).
ومولود الروح "لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ."
(متى ١٢ / ١٩ - ٢١)
أحد مبارك
/الخوري كامل كامل/