يكشف بولس الرسول سرّ نجاحه في قورنتوس وسرّ قبول أهل المدينة البشرى السارة التى حملها إليهم وهي بشرى جديدة غيرت قناعاتهم وايمانهم وديانتهم وطريقة حياتهم.
هذا السرّ هو "عدة عمل" كل رسول وكل مبشّر وكل راعٍ في كل العصور وكل الظروف لا تنجح الرسالة ولا تنمو حبة الخردل ولا يضيء أي سراج من دونه.
سر نجاح بولس هو منهج في الحياة الروحية ثلاثي الأبعاد :
البعد الاول: التخلي عن الحكمة البشرية "أَنَا، لَمَّا أَتَيْتُكُم لأُبَشِّرَكُم بِسِرِّ ٱلله، لَمْ آتِ بِبَرَاعَةِ الكَلاَمِ أَوِ الحِكْمَة".
البعد الثاني: اعتناق الحكمة الإلهية "بَلْ نَنْطِقُ بِسِرِّ حِكْمَةِ اللهِ المَحْجُوبَة".
البعد الثالث: إكتشاف أعماق الله "لأَنَّ الرُّوحَ يَسْبُرُ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ ٱلله".
في البعد الأول تخلّى بولس عن علمه ومعرفته ونسبه الشريف وانتمائه الى طبقة الفريسيين وجنسيته وانجازاته، لا بل تخلّى عن بلاغته في الكلام وحنكته في تدوير الزوايا وبراعته في التخطيط وشجاعته في التنفيذ، تخلّى عن الفلسفة التي درسها في طرسوس ومعها كل الفكر الهلّيني واختار منهجاً مختلفاً مرتبطاً بالصليب الامر الذي اعتبره اليهود عثرة واليونانيون جهالةً.
في البعد الثاني اكتشف بولس الحكمة الإلهية، هبة الروح القدس وهي مدرسة جديدة عمادها التواضع والمخافة الإلهية.
ظهر كجاهل وضعيف ومحتقر وبسيط "وقَدْ جِئْتُ إِلَيْكُم بِضُعْفٍ وَخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ شَدِيدَة" وبالتالي مشروع فاشل لا جدوى فيه لكنه ممتلء من الروح ومتناغم مع فكر المسيح أي الصليب "لأَنِّي قَرَّرْتُ أَنْ لا أَعْرِفَ بَيْنَكُم شَيْئًا إِلاَّ يَسُوعَ المَسِيح، وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا!".
لكن ليس بالأمر السهل على الرسول قبول الضعف والاعتراف به أمام الناس لأنهم بكل بساطة لا يقبلون الضعيف ولا يستمعون للفقير ولا يوجد مكاناً بينهم للعاجز ولا يمشون وراء خائف ولا يقبلون قيادة من يسكت على الأذية ولا يرد الشتيمة بمثلها ولا يفهمون منطق الصليب أي الحب دون حدود ودون شروط..تكاد إمكانيات بولس البشرية أن تكون معدومة فهو خائف ومرتعب وبحسب مقاييس الحكمة البشرية غبيٌ، إتهمه أهل قورنتوس بالضعف: “رسائل بولس قاسية عنيفة، لكنه متى حضر بنفسه كان شخصاً ضعيفا وكلامه سخيف” (٢ قور /١٠ - ١٠). رغم ذلك تحطمت أصنام كثيرة أمام بولس، استطاع بضعفه وخوفه أن يدخل القلوب القاسية والعقول المتحجرة وجعل النفوس تعانق السماء "ولَمْ يَكُنْ كَلامِي وَتَبْشِيري بِكَلِمَاتِ الْحِكْمَةِ والإِقْنَاع، بَلْ بِبُرْهَانِ الرُّوحِ وَالقُدْرَة، لِئَلاَّ يَكُونَ إِيْمَانُكُم قَائِمًا عَلى حِكْمَةِ النَّاس، بَلْ عَلى قُدْرَةِ الله"، فالله اختار “ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء” (١ قور ١/ ٢٧).
كلمات بولس البسيطة والضعيفة بشرياً صنعت العجائب. يخبرنا أعمال الرسل أنه في لسترة كان هناك رجل عاجز كسيح منذ ولادته “بينما هو يصغي الى كلام بولس نهض يمشي بعدما أمره بولس أن يقف منتصباً يتكلم فشخص إليه” (أع ١٤) فصاح الجمع أن الآلهة تشبهوا بالبشر ونزلوا الى الارض.. وأراد كاهن معبد زيوس أن يقدم الذبائح لبولس وبرنابا فاعترض بولس وقال بصوت عالٍ: "ماذا تفعلون أيها الناس؟ نحن بشر مثلكم".. في البعد الثالث يكتشف الانسان الفارغ من الحكمة البشرية /أي من ذاته/ والممتلء من الروح القدس، يكتشف حضور الله، وهذا دليل أن الانجيل لم يدخل الى القلوب بواسطة البلاغة وإعجاز الكلام على يد الاقوياء من بني البشر بل بالايات الروحية العجيبة التي تفتح قلوبهم على الحب الإلهي فيدركون الكمال ويتمتعون بمجد الله على الارض كما سيتمتعون به في السماء.
يشعر المؤمن بالألم كسائر الناس لكنه يختبر رحمة الله بطريقة عجيبة فتظهر في عزّ القهر نعمة العدالة وشدّة المرض نعمة الصحة ولجّة الموت نعمة الحياة وفي مرارة الايام يتذوق جمال الحكمة الإلهية فيدرك أنه أصبح الابن الحبيب رغم إفلاسه والابن الذي كان ضالاً فوجد ومائتاً فعاش.
يُعلن بولس صراحة أنه أعدّ كل شيء كالزبل ليربح المسيح ولا يستطيع أي عائق أن يحرمه من هذه النعمة "مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضِيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟.. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا"(روم ٨/ ٣٥ - ٣٨).
أحد مبارك
/الخوري كامل كامل/