إنَّهُ شهر النفوس المطهريَّة يَطلُّ علينا لِنُصلّي لأجلهم.
يقول التعليمُ الكاثوليكي إنّ للكائن البشري، في لحظة الموت، فرصة أخرى ليتطهّر ويصل إلى درجة القداسة الضرورية للدخول إلى السماء.
والمطهر هو بالضبط تلك الحالة التي بها تتطهّرُ أنفسُ الموتى.
فالمطهر ليس غرفة عذابات ولا يجب أن يثير الخوف، بل هو الفرصة الأخيرة التي تُمنح للإنسان ليبلغ ملأه وينمو حتّى في الفرص الأخيرة من وجوده.
شرّ العالم وشرّ قلوبنا لا يُنسى ببساطة بالموت.
فالله ليس نعمةً فقط، بل عدالة.
وكلّ إنسان، بما أنّ له الحرية، فهو مسؤول في نهاية المطاف عن خياراته وعن مواقفه.
في هذا السياق، جميع من يموتون في نعمة وصداقة الله، ولكنّهم ليسوا متطهرين تمامًا، لديهم الفرصة للمرور في هذا التطهير بعد الموت.
يقول التعليم الكاثوليكي إنّ مصير الكائن البشري في الموت لا يصل إلى نقطةٍ نهائية ثابتة من التطور.
وهذا يعني إمكانية القيام بمسيرة كمال – اهتداء وتطهير – بعد الموت، إنّه الاهتداء الأخير للإنسان.
على كلّ واحدٍ منّا أمام الله، في الموت، أن يتنازل بصورةٍ جذرية عن أيّ شكلٍ من أشكال الغرور والأنانية، ويهب ذاته للربّ بدون شروط، واضعًا فيه كلّ رجائه.
عليه أن يترك كلّ ما يجعل مستحيلاً محبته لله من كل القلب.
تعرّف الكنيسة المطهر بأنّه آخر مرحلةٍ من نموّ الإنسان، آخر اهتداء وتطهير ليدخل بعدها في شِركة مع الله.
“في الموت، وبفضل اللقاء مع الله الذي سيختبره كلّ إنسان وبقوةٍ لم يعرفها من قبل، يُعرف معنى الحياة المُعاشة.
وعلى أساس ما فعل خلال حياته هذه، وما فعل لآخرين وفي أوضاع تاريخية محددة في الحياة، فحتّى وحدته مع الله سترتبط بتطهيرٍ سيعيشه بطريقةٍ مؤلمة تقريبًا”، يقول اللاهوتي رينولد بلانك في كتاب “اسكاتولوجيا الشخص“.
هذا التطهير هو الفرصة الأخيرة المُعطاة للإنسان ليضع موضع التطبيق مشروعَ الله، والذي فيه نكون “على مثال صورة ابنه ليكون هذا بكرًا لإخوة كثيرين”.
ولذلك لا يمكنُ أن يُرى المطهر كغرفة تعذيبٍ كونية، ولا يجب أن يثيرَ الخوف.
فالمطهر في العمق “فعلٌ جديد ومتكرر لخلاص الله، لكي يصل الإنسانُ إلى الخلاص” تأتي نعمة الله من خلال المطهر لكي يعود الإنسانُ من خلالها وينمو حتّى في الفرص الأخيرة من وجوده، ويصل إلى التحقيق الكامل لجميع قدراته، ويكون مستعدًا للدخول في السماء وفي قداسة الله.
صورةُ النار المرتبطة بالمطهر قد تُفسّرُ بالمسيح نفسه الذي يأتي لخلاصنا.
ففي اللقاء به، كلّ باطلٍ ينهار ونظرته تطهرنا مثل النار.
وحول ارتباط صورة المطهر بالنار، أشار البابا بندكتوس السادس عشر بأنّ “بعض اللاهوتيين الحديثين يميلون إلى الاعتقاد بأنّ النار التي تحرق وتخلّص هو المسيح نفسه، الديّان والمخلّص” أمام نظرة المسيح، كلّ باطلٍ ينهار.
“فاللقاء معه يحرقنا فيحوّلنا ويحررنا ليجعلنا نصبح أنفسنا حقًا“.
في تلك اللحظة، “وفي ألم هذا اللقاء، حيث يظهرُ دنسُ كياننا واضحًا أمام أعيننا، يكمنُ الخلاص“.
نظرة المسيح، لمسة قلبه “تشفينا من خلال تحوّلٍ مؤلم بلا شك، كما في النار.
ومع ذلك، فهو ألمٌ مبارك حيث تخترقنا قدرة حبّه المقدسة مثل اللهيب“.
ويشرح قداسة البابا بندكتوس السادس عشر بأنّ خطيئة الإنسان احترقت مسبقًا بآلام المسيح. وفي لحظة الدينونة “نختبرُ ونقتبلُ انتصار محبته على جميع الشرّ الذي في العالم وفينا“.
عقيدة المطهر هي نتيجة منطقية للفكرة الواردة في الكتاب المقدس والتي بحسبها يطلب الله التكفيرعن الخطايا.
وتشير هذه العقيدة إلى بعض المقاطع من الكتاب المقدس، وإلى تقليد الكنيسة والصلاة من أجل الموتى.
صيغت هذه العقيدة انطلاقًا من مجمع ليون الثاني عام ١٢٧٤.
يشير مصطلح المطهر إلى مفهومٍ لاهوتي ظهر في الغرب بدءاً من القرون الوسطى.
ويشير إلى ظروف أنفس الموتى التي توجد في حالةٍ مؤقتة، لكونها غير مؤهلة للدخول مباشرةً في حضرة الله.
ويعتبر الفكر الكاثوليكي عقيدة المطهر كنتيجة منطقية للعقيدة الكتابية التي بحسبها يكفّر الله عن الخطايا المرتكبة.
وفيما يخصّ العهد القديم، نجدُ النصّ الأكثر أهميةً لإبراز هذه الفكرة في ( سفر المكابيين الثاني ١٢ / ٣٩-٤٦ ) ، عندما قدّم يهوذا “ذبيحة التّكفير عن الأموات، ليحلّوا من الخطيئة“. ويتحدّث ( بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس ٣ / ١٠-١٥ ) ، عن الخلاص “في النار“.
وحتّى القرن الرابع، كان الإيمان بالمطهر يظهر في التعازي التي كان المسيحيون يحيوها لذكرى أمواتهم، أي الصلوات من أجل الأنفس التي لم تدخل بعد في السماء والتي يمكن مساعدتها بصلاة المؤمنين الأحياء.ويقول القديس أغسطينوس وكبار لاهوتيي الكنيسة الأولى إلى وجود عقوبات تكفيرية بعد الموت.
في هذا الشأن، يُذكر كثيرًا نصّ القديس بولس الذي يتكلم عن الخلاص “في النار“.
أمام اهتمامٍ متزايد لموضوع المطهر في القرون الوسطى، بدأ تعليمُ الكنيسة بتكوين عقيدته عنه.
ويتحدث مجمع ليون الثاني (١٢٧٤) عن “عقوبات مطهرية”.
وحتّى مجمع فلورنسا (١٤٣٨) يشير إلى تطهير بعد الموت من خلال “عقوبات مطهرية”، ولكن المجمع التريدنتيني (١٥٤٧) كان أوّل مَن سمّى العقيدة بصورةٍ محددة، مؤكدًا بأنّ الخطيئة تجلب عقابًا لابدّ أن يُكفّر عنه “سواء في هذا العالم أم في العالم الآخر، أي في المطهر“.
إنّها إذًا عقيدة كاثوليكية لم تقبلها كنائس الشرق ولا البروتستانت.
ويؤكد التعليمُ الحديث للكنيسة الكاثوليكية على عقيدة المطهر.
فالتعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (١٩٩٢) يشير إلى استناد هذه العقيدة على الكتاب المقدس، وعلى المجامع وعلى ممارسة الصلاة من أجل الموتى.
وحتّى البابا بندكتوس السادس عشر يتناول هذا الموضوع في رسالته حول الرجاء المسيحي.
هذه الصلاة علّمها المسيح للقدّيسة ماتيلد خلال إحدى ظهوراته من أجل راحة الأنفس المطهريّة.
وكلّما تلت القدّيسة ماتيلد هذه الصلاة كانت تشاهد أسرابًا من الأنفس تصعد إلى السماء. أبانا الذي في السماواتأرجوك أيّها الآب السماوي أن تغفر للأنفس المطهريّة لأنّهم لم يحبّوك حبًّا خالصًا، ولم يكرّموك، كما يليق بك التكريم، يا من تبنيّتهم أولادًا لك بالنعمة الخالصة.
أمّا هم فنقيض ذلك، وبسبب خطاياهم طردوك من قلوبهم حيث كنت ترغب سكناها.
من أجل إصلاح أخطائهم، أقدّم لك كلّ الحبّ والاحترام الذي قدّمها لك ابنك المتجسّد خلال حياته على الأرض؛ كما أقدّم كلّ أفعال التكفير والقصاص الذي أتمّها والتي بواسطتها كفّر عن خطايا العالم ومحاها. آمــــــــــــين.
ليتقدس إسمك
أرجوك، أيّها الآب الطيّب، أن تغفر للأنفس المطهريّة، لأنّها لم تكرّم اسمك القدّوس على الدوام بل تلفّظوا بما لا يليق به من العبارات حتّى غدوا غير جديرين بحمل اسم مسيحي في حياتهم الملىء بالخطايا.
من أجل إصلاح أخطائهم أقدّم لك كلّ التكريم الذي قدّمه ابنك الحبيب لأجل اسمك القدّوس بكلماته وأعماله طوال حياته على الأرض. آمــــــــــــين.
ليأتِ ملكوتك
أرجوك أيّها الآب الطيّب، أن تغفر للأنفس المطهريّة، لأنّهم لم يسعوا إلى ملكوتك ولم يرغبوا به بحرارة وجهد، هذا الملكوت المكان الوحيد حيث تعمّ الراحة والسلام الأبديّ.
من أجل إصلاح إهمالهم لعمل الخير، أقدّم لك الرغبة المقدّسة والعظيمة لابنك الإلهيّ في أن يتحوّل هؤلاء إلى ورثة حقيقيّين لملكوتك السماوي. آمــــــــــــين.
لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض
أرجوك أيّها الآب الطيّب، أن تغفر للأنفس المطهريّة لأنّهم لم يضعوا إرادتهم تحت إرادتك ولم يعملوا مشيئتك في كلّ أمر بل عاشوا وتصرّفوا بحسب مشيئتهم الخاصّة.
من أجل إصلاح تمرّدهم أقدّم لك التناغم الكامل، لقلب ابنك الإلهيّ المليء بالحبّ، مع إرادتك القدّوسة والخضوع العميق الذي عبّر عنه من خلال إطاعته لك حتّى موته على الصليب. آمــــــــــــين.
أعطنا خبزنا كفاف يومنا
أرجوك أيّها الآب الطيّب إغفر للأنفس المطهريّة لأنّهم لم يتقبّلوا سرّ الإفخارستيّا برغبة كاملة، وكثيرًا من غير استقبال حميم أو حبّ وأحيانًا من غير جدارة وأحيانًا أخرى أهملوه ولم يتقبّلوه.
من أجل إصلاح كلّ هذه الخطايا التي ارتكبوها، أقدّم لك القداسة المفعمة والاستقبال العظيم لسيّدنا يسوع المسيح ابنك الإلهيّ كما أقدّم لك الحبّ الحارّ الكبير الذي قدّم لنا به هذه النعمة التي لا مثيل لها. آمــــــــــــين.
إغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ وأساء إلينا
أرجوك أيّها الآب السماوي أن تغفر للأنفس المطهريّة كلّ الخطايا التي قاموا بها والخطايا الرئيسيّة السبعة التي ارتكبوها كما اغفر لهم عدم محبّتهم وغفرانهم لأعدائهم.
من أجل إصلاح كلّ هذه الخطايا، أقدّم لك الصلاة المفعمة بالمحبّة التي قدّمها إليك ابنك الإلهيّ من أجل أعدائه وهو على خشبة الصليب. آمــــــــــــين.
ولا تدخلنا في التجربة
أرجوك أيّها الآب الطيّب إغفر للأنفس المطهريّة، لأنّهم غالبًا ما صمدوا أمام التجارب والشهوات ولكنّهم تبعوا العدوّ بملء خاطرهم فتركوا أنفسهم لإغراءات الجسد.
من أجل إصلاح هذه الخطايا المتعدّدة الأشكال، أقدّم لك النصر المجيد لسيّدنا يسوع المسيح على هذا العالم.
كما أقدّم لك حياته المقدّسة وعمله وآلامه وعذاباته وموته القاسي على الصليب. آمــــــــــــين.
ولكن نجّنا من الشرير
ومن كلّ قصاص بشفاعة نِعَم ابنك الحبيب، وسِر بنا وبالأنفس المطهريّة إلى ملكوتك، الذي يتماها معك، حيث المجد الأبدي. آمــــــــــــين.