هذا الأحد يفتتح الأسبوع الأوّل من زمن الصوم الكبير الذي هو رحلة فردية وجماعية نحو العبور الفصحي مع موت يسوع لفدائنا وقيامته لتقديسنا، "بالموت" عن إنسان الخطيئة، "الإنسان القديم"، والقيامة لإنسان النعمة، "الإنسان الجديد"، بحسب تعبير القديس بولس الرسول ( أفسس ٤ / ٢٢-٢٤ ).
تقرأ الكنيسة إنجيل آية تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة، كآية أولى أظهر فيها يسوع ألوهيّته من جهة، وقدرته على تحويل الإنسان من الداخل من جهة أخرى، بحيث يستعيد ويحتفظ ببهاء صورة الله فيه.
هذه البشرى السّارة "نقلها الإنجيليّون، لا ككتاب تاريخ، بل كاختبار للأحداث الخلاصيّة التي قام بها يسوع في حياته على الأرض.
كتبوا الحقائق الإلهيّة التي اختبروها وعاشوها.
ولذا أنهى يوحنا إنجيله بالقول: "وأتى يسوع أمام تلاميذه بآيات أخرى كثيرة لم تُكتب في هذا الكتاب.
وإنّما كتبت هذه لتؤمنوا بأنّ يسوع المسيح هو ابن الله، ولتكون لكم، إذا آمنتُم، الحياة باسمه" ( يوحنَّا ٢٠ / ٣٠-٣١ ).
الصوم الكبير هو زمن التغيير الداخلي في حياة كلّ مؤمن ومؤمنة.
افتتحه الربّ يسوع بآية تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة، للدلالة أنّه قادر، بكلمته ونعمته وعطيّة الروح القدس، على تحويل حياة كلّ إنسان إلى الأفضل والاجمل.
هنا موضوع رسالتي الراعوية الأولى في مناسبة الصوم، وعنوانها: “الصوم الكبير زمن التغيير”.
الصوم الكبير هو زمن التغيير في اتجاهات ثلاثة: التغيير في العلاقة مع الله بالصلاة والتوبة من أجل استعادة بهاء البنوّة الإلهية؛ والتغيير في العلاقة مع الذات بالصوم والإماتة بهدف التحرُّر من كلِّ ما يعيب هذه البنوّة وصورة الله فينا، ومن أجل تدريب الإرادة على كبح الأميال والغرائز المنحرفة، والسيطرة على الذات؛ والتغيير في العلاقة مع كلِّ إنسان، ولاسيّما مع ذوي الحاجة، بأعمال المحبة والرحمة والتصدُّق، بُغية ترميم الأخوّة الشاملة.
من شأن هذا التغيير المثلّث أن يُدخلنا في عمق سرّ الشركة والمحبة.
يتزامن الصوم الكبير في قسم منه مع ربيع الطبيعة التي تتغيّر بلباس ثوب جديد استعداداً لموسم العطاء.
فكم يجدر بالإنسان أن يكون شبيهاً بالطبيعة.
فلا بدّ من أن ننزع منا أنماط الحياة العتيقة بالتقشف والتوبة، كما فعلت الطبيعة في فصل الشتاء، وأن نلبس ثوب الحياة الجديدة على مستوى التفكير والرؤية، والأفعال والمسلك.
أما وسائل التغيير، في هذا الزمن، ثلاثة متكاملة ومترابطة هي الصلاة والصوم والصدقة.
الصلاة ضرورة حياتيّة.
فالروح القدس الذي يملأ كيان المصلِّي والمصلِّية يحرِّره، كما يقول بولس الرسول، من أعمال الجسد المنحرفة، ويثمر فيه ثمار الروح كالمحبة والفرح والسلام واللطف والطهر والتواضع والصلاة والصبر ( غلا ٥ / ١٨-٢٣ ).
والصوم، إلى جانب كونه شريعة إنجيليّة، هو أيضاً وصيّة كنسيّة من وصاياها السبع: “صُم الصوم الكبير وسائر الأصوام المفروضة، وانقطعْ عن الزفر يوم الجمعة”.
والصدقة تجاه الفقراء، وهي تعبير عن واجب العدالة ووصيّة المحبة الأخويّة: “أحبّ قريبك حبَّك لنفسك” (متى ٢٢ / ٣٩ ).
أوصى بها الربّ يسوع: “تصدّقوا بما هو لديكم” (لو ١١ / ٤١ )؛ ويوحنا المعمدان: ” منْ له قميصان، فليعطِ من ليس له” ( لوقا ٣ / ١١ ) ؛ ويعقوب الرسول: “إن كان أخٌ أو أخت عريانين، وليس لهما قوت يوم، وقال لهما أحدكم: إذهبا بسلام واستدفئا واشبعا، ولم تعطوهما حاجة الجسد، فماذا انتفعا؟ كذلك الإيمان وحده، بدون أعمال ميت” (يعقوب ٢ / ١٥-١٧ )؛ ويوحنا الحبيب: “من كان له مقتنى الدنيا، ويرى أخاه في فاقة، ويُمسك عنه مراحمه، فكيف تكون محبة الله فيه؟“. فلا يكنْ حبُّ بعضنا بعضاً بالكلام واللسان، بل بالأعمال والحقّ” (١ يو ٣ / ١٧-١٨ ). آمــــــــــــين.