بعد ثلاثة أيام من إعتماد الربّ يسوع في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، إفتتح حياته العلنيّة بالمشاركة مع تلاميذه ومريم أمه في عرس قانا الجليل وأجرى آية تحويل الماء إلى خمر ممتاز.
الآية هي علامة العهد المسيحاني الذي يصنع كل شيء جديداً بالكلمة ونعمة الفداء.
لهذا السبب اختارت الكنيسة انجيل هذه الآية في مدخل الصوم الكبير للدلالة انه زمن التغيير استعداداً لولادة فصحية جديدة: تغيير في العلاقة مع الله بالصلاة والتوبة من اجل استعادة البنوّة له؛ وتغيير في العلاقة مع الذات بالصوم والاماتة من اجل التحرر من كل ما يعيب هذه البنوة وصورة الله فينا؛ وتغيير في العلاقة مع الناس باعمال الرحمة والمحبة والتصدق من اجل ترميم الاخوّة الشاملة.
مثل هذا التغيير، بوجوهه الثلاثة، لا يجريه الاّ المسيح الفادي، بقدرته الالهية وحلول الروح القدس، بتشفع مريم امه وام البشرية جمعاء.
هذا ما تدل عليه معجزة تحويل الماء الى خمرة جيدة في عرس قانا الجليل، فالاعجوبة علامة.
ليس عندهم خمر...افعلوا ما يقوله لكم" ( يوحنَّا ٣ / ٢ و٥ ).
لولا وساطة مريم لما كانت الآية، ولما كانت كل معانيها.
كُتب الكثير عن جواب يسوع" ما لي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد"، وعن كلمة مريم " افعلوا ما يقوله لكم".
ينبغي ان نفهم ذلك انطلاقاً من فهم مريم لا من فهمنا نحن للالفاظ: بالنسبة الى فهم مريم، فقد شعرت بان المعجزة آتية لا محاله، لانها تعرف يسوع في العمق، وعايشته ثلاثين سنة في الناصرة، واختبرت قدرته على العجائب من خلال معجزات خفية داخل جدران البيت الوضيع.
ولذلك قالت ببساطة: " افعلوا ما يقوله لكم".
هي مريم الوسيطة التي "تقف بين ابنها يسوع والبشر في واقع ما يعانون من حرمان وفقر وألم. انها تتخذ لذاتها مكاناً " في الوسط"، اذ تقوم بدور الوسيط، ليس من الخارج، بل من موقع امومتها، مدركة قدرتها على ان تعرض لابنها حاجات البشر او بالاحرى حقها في ذلك.
وساطتها تحمل طابع الضراعة: " مريم تضرع" لاجل البشر ( القدِّيس البابا يوحنا بولس الثاني: ام الفادي،٢١ ).
بسبب تشفع مريم، ظهر الكثير في آية عرس قانا: ايمان مريم الكبير بابنها، ومحبتها للعروسين، وقدوتها للتلاميذ، وحب يسوع لامه، وجودته وقدرته ومجده، وايمان التلاميذ الاول.
وظهرت بنوع خاص قدرة مريم ام يسوع بحيث ان الله يستجيب كل طلب يصل اليه بواسطة مريم، ويجعل " ساعة" تدخله في تاريخ البشر " ساعة " وساطتها.
ولهذا سمتها التقوى المسيحية "اماً قديرة" و" ام المعونة الدائمة".
فكما بكلمة نعم: " ليكن لي حسب قولك"، يوم البشارة، فتحت الابواب لتجسد الكلمة، وكانت الباب الذي عبر من خلاله ابن الله من السماء الى الارض، كذلك، بوساطتها في عرس قانا، نالت استباق " ساعة" ظهور يسوع المسيحاني، فقدمته لجميع الناس ، واستباق ولادة الكنيسة من "ساعة" يسوع على الجلجلة بصلبه، هذه الكنيسة التي ستوزع اسرار الخلاص وتعطي خمرة المسيح في الافخارستيا.
مريم نفسها تلهمنا كل يوم " لان نفعل ما يقول لنا يسوع"، لكي نحصل على ما نلتمس بواسطتها من خير ونعم.
في قانا استهل يسوع " ساعته" بفضل ضراعة مريم وطاعة الخدام، وظهرت مريم امام البشر وكأنها الناطق باسم ابنها، تعبّر عن ارادته وترشد الى ما يقتضيه تجلي قدرة المسيح الخلاصيَّة. آمــــــــــــين.