في الأحد الأوَّل عرس قانا الجليل نفتتح زمن الصوم الكبير الذي يبدأ ثاني يوم الإثنين، المعروف "باثنين الرماد"، لان فيه يرش الرماد على الرأس او ترسم به اشارة الصليب على الجبين كعلامة للدعوة الى التوبة، مع هذه الكلمات: " تذكّر يا انسان انك من التراب والى التراب تعود" ( تكوين ١٩ / ٣ ) وهي كلمات قالها الله لآدم بعد خطيئته.
زمن الصوم الكبير هو زمن التغيير في العلاقة مع الله والذات والاخوة بروح التوبة وتبديل المسلك والموقف.
يقوم هذا الزمن على ثلاثة: الصلاة والصوم والصدقة. بالصلاة نعود الى الله بالاستغفار وطلب الغفران.
بالصوم نروّض النفس لتنتصر على ما فيها من اميال منحرفة.
بالصدقة نقوم باعمال محبة نحو الفقراء والمعوزين مادياً ومعنوياً وروحياً.
القراءات في الصوم الكبير هي قراءات بيبلية وفيها تدعونا الى هذا التغيير.
في الرسالة إلى أهل روما، يتكلم مار بولس الرسول ( روم ١٤ /١٤- ٢٣ ).
تُتلى هذه الرسالة في مطلع الصوم الكبير للدلالة انه زمن الانتباه إلى الاخ الآخر وعدم تشكيكه في المسلك والموقف، حتى بتناول الطعام: " لا تَهلك بطعامك ذاك الذي مات المسيح من اجله... فخير لك ان لا تأكل لحماً ولا تشرب خمراًَ، ولا تتناول شيئاً يكون سبب عثرة وشكّ لاخيك".
في كلام بولس دعوتان:
الأولى، إلى إشراك الآخر المعوز في ما عندك من خيرات.
دعوة الى تقاسم خيرات الارض، هذه التي رتّبها الله لجميع الناس.
ردد آباء الكنيسة القديسون، امثال باسيليوس ويوحنا فم الذهب: " إن انت لم تطعم آخاك، قتلته". يدعو الى العناية بالاخوة متجنبّين الشكوك لكي لا نعطّل فيهم عمل الله.
في انجيل آية تحويل الماء الى خمر، بتشفّع ام يسوع، علامة للتغيير الذي تجريه نعمة المسيح في قلب الانسان وجوهره.
لكن الكل يقع تحت عنوان واحد: الحياة من أجل الآخرين.
الصوم الكبير هو ايضاً " زمن السلوك بالمحبة".
وهي فضيلة تصلح كل شيء.
بدونها، على ما سمعنا في رسالة بولس الرسول، يصبح كل شيء نجساً، فيما خلقه الله طاهراً ؛ وما هو خير يصبح شيئاً للتجديف، الذي ينقض عمل الله.
اما بالمحبة فيُبنى " ملكوت الله الذي ليس اكلاً وشرباً، بل استقامة وسلام وفرح بالروح القدس وبنيان بعضنا بعضاً.
زمن الصوم الكبير يقدّم لنا الوسائل " لنعيش وفقاً للانسان الجديد المخلوق على صورة الله بالبر والحق، نابذين الشهوات الفاسدة والخدّاعة، وملتزمين التجدد الروحي في الاذهان".
المسيح معني بالانسان وبخلاصه، وكانت حياته كلها من اجل كل انسان.
انه لنا المثال والقدوة.
ولولا انتباه مريم امه وتشفعها ووساطتها، لما كانت تتميز حياة مريم ايضاً انها من اجل الانسان.
علّم الكردينال راتسنغر، الذي اصبح البابا بندكتوس السادس عشر، في كتابه " مدخل الى الايمان المسيحي" ان " الحياة عيش من اجل الآخرين".
قال: "يقتضي الايمان المسيحي التزام الفرد بان يكون من اجل الجماعة، لا من اجل نفسه.
تميّز الرب يسوع بمظهر الوجود من اجل الكثرة- من اجلكم" (مرقس ١٤/٢٤ ).
ان ذراعي المسيح الممدودتين على الصليب تعبير لاثنتين متلازمتين: العبادة والاخوّة.
فامتداد اليدين بشكل صليب يعبّر عن حالة الصلاة والعبادة من جهة، وعن التضحية الكلية من اجل البشر الذين تعانقهم بروح الاخوّة، من جهة ثانية.
"أنْ نكون مسيحيين يعني اساساً الانتقال من الكينونة من اجل الذات الى الكينونة من اجل الآخرين... ان كلمة يسوع التي تحثنا على حمل الصليب وراءه تعبّر عن واجب الانسان بترك عزلته " أناه" وطمأنينته، وخروجه من ذاته ليتبع المصلوب ويضع صليباً على " أناه"، ويحيا من اجل الآخرين".
"التضحية هي التي تغذي حياة العالم".
هذا هو سرّ موت المسيح وقيامته المشبَّه بحبّة الحنطة التي تموت وتعطي السنبلة ( يوحنَّا ١٢/٢٤ ).
هذا السّر متواصل بالتأوين، الآن وهنا، في سّر الافخارستيا الذي هو ذبيحة ومناولة، تضحية تُبذل وحياة تُعطي.
من سّر القربان نستمد " حضارة العيش من اجل الآخرين". آمــــــــــــين.