زمن الصوم لا ينحصر بممارسة الصوم فقط، بل يكتمل بالصلاة، الشخصيّة والجماعيّة في الرعايا وفي زيارات الحجّ التقوية.
صلّى يسوع في مكان قفر.
إنّه المكان المميَّز للقاء الله في الصمت، بعيدًا عن الضجيج، “فالله يتكلّم في النسيم العليل”.
هناك ينفتح قلب المصلّي كلّيًّا على الله، ويضع ذاته بين يدَيه، فلا خيار آخر أمامه.
“صحراء” الخلوة مع الله ضروريّة لخلق جوّ ملائم للصلاة، نفتح فيه القلب لسماع صوت الله.
الرياضة الروحيّة في زمن الصوم تهدف إلى هذه الغاية.
الصلاة في “مكان قفر” مورِست في كتب العهد القديم: يعقوب التقى الربّ في “مخّاضة يبّوق” وإيليا كلّم الله في الصحراء وموسى كلّمه على رأس الجبل.
بقاء شعب الله القديم أربعين سنة في الصحراء علّمه كيف يلاقي ربّه، ويتعلّم منه طريق الحياة.
“الصحراء” ضروريّة للقاء الله.
نجد في الإنجيل أنّ يسوع كان يصلّي في أكثر من مناسبة.
هل هو بحاجة إلى صلاة، وهو إله؟ للإجابة نعود إلى معنى كلمة “صلاة”.
إنّها تشتقّ من كلمة “صلة” أي علاقة.
لذا، الصلاة الحقيقيّة، قبل أن تكون كلمات وطلبات، هي “صلة” ابن مع أبيه.
وهي شعور عميق بالحضور أمام الحبِّ الإلهي الأعظم الذي يملأ كياننا بالنور والسلام والفرح الداخلي.
فيسوع هو صلاة دائمة مع الآب.
بهذا يدعونا الآباء القدِّيسون إلى تحويل حياتنا كلّها إلى صلاة، بحيث يرافق الله كلّ واحد منّا إلى مواضع حياته، ويكون هو الملهِم والمنير والهدف الأسمى الذي يسعى إليه في كلّ عمل صالح.
وهكذا يستطيع القول مع بولس الرسول: “حياتي هي المسيح”.
من هذه الزاوية نفهم أنّ الامتناع عن الطعام، صومًا وقطاعة، والإماتات في زمن الصوم، إنما هي من أجل التحرّر من الأرضيّات للوصول إلى المسيح، وجعله كلًّا للكلّ في حياتي الشخصيّة.
فهو أهمّ من الأكل والشرب وملذّات الحياة وأفراح الدنيا.
قبل أن يلتقي يسوع الأبرص، بل قبل أن يلتقي الأبرصُ يسوع، إذ “هو الذي وافى إليه” ، كان بطرس والتلاميذ يبحثون عنه حتى وجدوه وقالوا له: “الجميع يطلبونك”.
زمن الصوم هو بحث عن يسوع في كلّ مواضع حياتنا ومفارقها، وهو اتّباعه.
فمن يجده في زمن الصوم بكلمته الهادية ونعمته المبرِّرة يستطيع الاحتفال بعيد قيامته، وهي فصح العبور إلى حياة جديدة.
لا يقتصر البحث عن المسيح على زمن الصوم، بل ينبغي أن يستمر طوال أيام حياتنا.
مَن يجد المسيح يرغب في أن يجده الآخرون.
قالوا له: “الجميعُ يطلبونك”.
هي الرغبة الرسوليّة عند كلّ مسيحي: يسعى أن يعرف يسوع على حقيقته ويعرِّف الناس إليه؛ يتضامن مع الناس في حاجاتهم ويقودهم إلى المسيح الذي هو وحده قادر على تلبيتها؛ يعمل كصلة بين الناس ويسوع، يدلّهم على دربه ويصلّي من أجلهم.
لبّى يسوع مطلبهم بجوابه:
“لنذهب إلى مكان آخر، إلى القرى المجاورة، لأبشّر هناك أيضًا، فإنّي لهذا خرجت”.
استعمل الفعل بصيغة الجمع “لنذهب”، للتأكيد على أهميّة تشفّعهم من أجل الشعب، وعلى أنّ الرسالة الموكولة إلينا ونقوم بها إنّما نفعلها باسم المسيح، وهو الذي يضمن نجاحها، لكونه يفعل بواسطتنا.
وفي كلّ حال، مكان الرسالة المسيحيّة ليس بعيدًا، فهو في البيت والعائلة والدير والبلدة ومكان العمل، حيث الكلّ بحاجة إلى التفاتة محبة أو خدمة أو عاطفة صادقة، أو كلمة حلوة أو ابتسامة مشجِّعة، أو نصيحة مفيدة.
وفي الواقع “راح يسوع يطوف الجليل، يبشّر في المجامع، ويطرد الشياطين”.
تبشير بكلام الله، كلام الملكوت، وشفاء الأجساد والأرواح.
لماذا الربط بين “التبشير وطرد الشياطين؟” فلأنّ سماع الكلمة الإنجيليّة يحرِّر من كلّ ربط.
لكن المهمّ أن نسمع كلام الله من مصدره: من الكتب المقدّسة وتعليم الكنيسة الرسمي، لا من الانترنيت والفيسبوك.
كما أنّ البعض يجعل من كلام الإنجيل وتعليم الكنيسة وسيلة تشكيك وتضليل.
لقد حذّرنا الربّ يسوع من “الذين يأتوننا بثوب الحملان” ( متى ٧ / ١٥ ). آمــــــــــــين.