زمن الصوم يمتاز عن سواه في انه الزمن المقبول والمناسب، الذي تظهر فيه نعمة الله الشافية، كما يقول بولس الرسول: " نحثّكم بالاّ تجعلوا نعمة الله المعطاة باطلة.
فها هو الآن الزمن الموآتي، وها هو الآن زمن الخلاص" ( ٢ كور ٦ / ١-٢ ).
المرأة النازفة عرفت ان تدخل زمن الخلاص.
يسوع في طريقه الى بيت يائيرس، رئيس المجمع، لكي يشفي ابنه، تلبية لالتماس ابيه.
المرأة المصابة بنزيف تغتنم هذه الفرصة، وفيها ايمان وطيد لانها اذا تمكّنت من لمس طرف ثوب يسوع تشفى من نزيفها.
وهذا ما حصل.
يسوع عرف بايمانها الداخلي العميق، هو الذي "يعرف ما في قلب الانسان" ( يو ٢ / ٢٥ ).
فلبّى طلب ايمانها الصامت، لكنه الناطق في قلب يسوع.
الايمان موقف ومسلك، وكذلك الصلاة، قبل ان يكونا اعلاناً بالكلمات، حرّمت شريعة العهد القديم المرأة المصابة بنزيف من ان تلمس اي شيء من أمتعة البيت او ان تلمس احداً، لاعتبار نزيف دمها دنساً يدنّس كلَّ شيء وكل شخص.
لهذا السبب لم تجرؤ ان تلتمس شفاءها بالكلام امام الجمع، الذي لم يكن يعرف بأمرها وخافت من ان تشككه وتثير غضبه.
لكن ايمانها علّمها ما فعلت.
الايمان هو لغة القلب لا الشفاه.
ولهذا اراد يسوع ان يكشف سرّها، ويمتدح ايمانها، ليعطيها امثولة للجمع الحاضر.
واراد بنوع خاص ان يكسر كل حاجز بينه وبين الانسان، اياً كان ضعفه، واياً كانت خطاياه وشروره.
يسوع يُسقط كل الحواجز التي يقيمها البشر فيما بينهم ، زمن الصوم المناسب والمقبول هو زمن اسقاط حواجز التفرقة والنزاع والعداوة والخلافات بين الناس، بنعمة المصالحة والغفران.
هكذا فعل يسوع ايضاً عندما " تحنّن على ذاك الابرص، ومدّ يده ولمسه، فطهر من برصه".
في هاتين الحادثتين، علّمنا الرب يسوع الخروج من موقف عدم الاكتراث بالاخوة المحتاجين، مادّياً وروحياً ومعنوياً وانمائياً وثقافياً.
علّمنا ألاّ نعيش في اللامبلاة تجاه اي محتاج أو في تجاهله، بل ان نلتزم بالعدالة الطبيعية التي هي ثمرة حالة البرارة.
فلنتذكر الطوباوي الاب يعقوب حداد الكبوشي الذي، بفضل برارته وقداسته، أنجز اكبر افعال ومشاريع ومؤسسات على مستوى هذه العدالة.
هذه تعني " اعطاء كل واحد ما هو له".
ان " ما هو له" لا يقف عند حدود التصدّق العابر، بل هو توفير حياة كريمة تمكّن الانسان من ان يعيش من هذه المحبة التي يعطيها الله وحده، الى جانب المساعدة المادية الضرورية. "
تبقى العدالة التوزيعية ناقصة اذا لم تعطِ الانسان الاله الحق" القديس اغوسطينوسالنجاسة الحقيقية لا تأتي من امور خارجية، مثل نزيف الدم، والبرص، بل من داخل قلب الانسان، كما علّم الرب يسوع ذات يوم: " لا شيء من خارج الانسان، اذا دخله، ينجّسه.
ان ما يخرج من باطن الانسان هو الذي يدنسّه.
فمن الداخل، من قلب البشر تخرج مقاصد السوء" ( مرقس ٧ / ١٤-١٥ ).
ان ما نشهده من فساد على مستوى الاخلاق والعلاقات بين الناس وممارسة السلطة والادارة والمسؤولية، انما ينبع من قلوب لا يسكن فيها الله، قلوب من حجر لا تعرف المشاعر الانسانية، قلوب مملوءة من محبة الذات والانانية، قلوب لا تعرف الصلاة والتوبة، ولا تنفتح لقبول كلام الله ونعمة الاسرار وعطية الروح القدس.
وهذا أسوأ نزيف تصاب به مجتمعاتنا ويؤدي الى موت قيمها ومعنى الوجود والتاريخ فيها ، لفظة " صدّيق وصدقة" في الكتاب المقدس تبيّن العلاقة العميقة بين الايمان بالله، فنقول صدّيقاً او باراً، وبين ممارسة العدالة تجاه القريب، ونقول " الصدقة" او " التصدّق".
ونقول في الفرنسية Juste و Justice.
وهكذا لا تنفصل البرارة عن التصدّق.
بل التصدق هو ثمرة البرارة.
كما ذكرنا في مثل الطوباوي الاب يعقوب.
والتصدق على المحتاج، لاسيما الفقير والغريب واليتيم والارمل.
الله يسمع صراخ الفقير واليتيم والغريب والمستعبد، ويطالب باغاثتهم.
زمن الصوم هو الزمن المناسب والمقبول للحصول على نعمة البرارة، وممارسة فضيلة العدالة، ان مثل هذا الحزن المرضي لله، يقول بولس الرسول، " يصنع توبة للخلاص لا ندم عليها"، فيما " حزن العالم اي الذي من دون رجاء فيصنع موتاً".
ويضيف الرسول ان الخوف المرضي لله " ينشىء فينا الاجتهاد والاعتذار والاستنكار والخوف والشوق والغيرة، آمــــــــــــين.