هو ملء الزمن بعد مسيرة طويلة من تاريخ البشر، بدأت منذ الخلق والخطيئة الأولى، حيث ابن الله يصبح إنسانًا، فيولد في بيت لحم من عائلة بتولين يوسف ومريم بقوّة الروح القدس، هي أصلًا من الناصرة.
بميلاده كان إشراق النور السماوي في ظلمات حياة الدنيا، حقيقةً ومحبة وسلامًا.
وظهر مجد الله في تحقيق تصميمه الإلهي، أي خلاص العالم وفداء كلّ إنسان.
تسجيله رسميًّا باسم “يسوع ابن يوسف الناصري” (يو1: 45)، يعلن بوضوح انتماء ابن الله المتجسّد إلى الجنس البشري، إنسانًا بين الناس، من سكّان هذا العالم، خاضعًا للشريعة وللمؤسسات المدنيّة، لكي يخلّص كلّ إنسان ويفتدي العالم.
“إنّه يُحصى مع الجميع ليقدّس جميع البشر، ويُدوَّن في سجلّ النفوس مع العالم كلّه ليُنعم على المسكونة بأن تحيا متّحدة به، ولكي يُسجِل في سجلّ السماء كلّ الذين يؤمنون به” (أوريجانس في الإرشاد الرسولي “حارس الفادي” القديس للبابا يوحنا بولس الثاني، ٩ ).
مولده في بيت لحم، وفيما أبوه يوسف وأمّه مريم هما من الناصرة، تحقيق لنبوءة ميخا: “وأنت يا بيت لحم، أرض يهوذا، لستِ أصغر ولايات يهوذا، فمنكِ يخرج الوالي الذي يرعى شعبي”.
هذه النبوءة، التي كُتبت ما بين سنة قبل يسوع المسيح، تعني أنّ الله يمتلك مسار تاريخ البشر، ويتدخّل ويتجلّى سرُّ تدبيره الخلاصي في الزمن واليوم الذي يشاء.
ومولده في مذود، في ظروف مذلّة بشريًّا، كان علامة ناطقة “لتجرّده” الذي وصفه بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيليبي: “الإله يُخلي ألوهيّته، ويصير إنسانًا مثل كلّ الناس، يأخذ صورة الخادم، ويطيع إرادة الآب حتى الموت على الصليب.
لقد ارتضى كلّ ذلك حرًّا لكي يفتدي كلّ إنسان بمغفرة خطاياه.
والآب في المقابل رفعه إلى أعلى مجد السماء واعطاه اسمًا يفوق جميع الأسماء، فتسجد له كلّ ركبة، ويعترف به كلّ لسان أنّ المسيح ربّ”. كان المذود علامة لتواضعه ونهج البساطة الذي اعتمده.
إنه يدعونا للتشبه به، لكي نعرف الله وننفتح على كل إنسان كبير وصغير.
وكان المذود، حيث الطفل علامة معطاة من الملاك للرعاة ، علامة محبة الله الذي أخذ ضعفنا وألمنا وهمومنا ومحدوديتنا، لكي يحوّلها إلى قوة إيمان ورجاء ومحبة.
وكان بالتالي علامة حنان الله.
بلغت بشرى ميلاده السعيدة رعاة بيت لحم البسطاء الأمّيّين، بفم الملاك الذي بشّرهم “بالفرح العظيم الذي يكون للعالم كلّه، هو ميلاد المخلّص، المسيح الربّ.
تقبّل الرعاة البشرى فآمنوا وساروا في الليل على هدي النور الساطع، فوجدوه في المذود كما أنبأهم الملاك.
أخبروا يوسف ومريم بما سمعوا وما شاهدوا، ومريم ويوسف كانا يحفظان كلّ ذلك في قلبيهما، كسبب فرح من جهة، وكقوّة لما سيحدث لهما من ألم من جهة ثانية في مراحل حياة يسوع.
ورجع الرعاة البسطاء مملوئين فرحًا وسعادة، وهم يسبّحون الله كصدى لتسبحة الملائكة.
البشرى إياها بلغت رجال العلم والمعرفة، مجوس بلاد فارس العلماء بعلم الفلك.
بلغتهم من خلال قراءة حركة النجوم في سمائهم، وأدركوا أن ملكًا جديدًا قد ولد في نواحي أورشليم.
ما يعني أن الوحي الإلهي وعلم البشر جناحان يبلغ بهما الانسان إلى الايمان ومعرفة الله.
أما هيرودس الملك الذي وصلته البشرى على يد المجوس، وتأكدت له من رؤساء الكهنة وكتبة الشعب، وقد كشفوا له النبوءة عن مولد المسيح في بيت لحم ( متى ٢ / ٢ - ٦ )، فلم يقبل البشرى، بل رأى فيها ولادة عدوّ ينافسه على كرسي الملك، فاستباح، من أجل الحفاظ على كرسيّه، قتل جميع أطفال بيت لحم من عمر سنتين فما دون، من دون أية رحمة أو شفقة ( متى ٢ / ١٦ - ١٨ ).
كم من هيرودس اليوم يقتلون اطفالاً في بطون امهاتهم أو بقنابل الحروب أو بسلاح الإرهاب، أو بالاعتداء عليهم وعلى كرامتهم بشتى الطرق، أو بتجويعهم ورميهم على طرقات البؤس والتسوّل.
هذه البشرى السعيدة أعلنها الملاك لرعاة بيت لحم، وعمّت الأرض كلّها.
يُخبرنا القديس لوقا في أحد نصوصه الميلادية المتميّزة ( لوقا ٢ / ٨-٢٠ )، كيف أنّ ملاك الرب ظهر لرعاةٍ يبيتون في البرّية ويتناوبون السهر في الليل على رعيتهم.
فبشّرهم بخبرٍ عظيمٍ يفرح له جميع الشعب، وهذه البشرى السارّة هي ولادة المخلّص، يسوع المسيح الرب، في مدينة داود (بيت لحم).
وبعد أن أطلعهم الملاك على أنّهم سيجدون طفلاً مقمَّطاً مضجعاً في مذود، ظهر مع الملاك بغتةً جمهورٌ من جند السماء، وأخذوا يسبّحون الله ويمجّدونه.
وإذ انصرف الملائكة عنهم إلى السماء، قال الرعاة بعضهم لبعض: “هلمّوا نذهب إلى بيت لحم، فنرى ما حدث، ذاك الذي أخبرَنا به الرب” ( لوقا ٢ / ١٥ ).
إذاً يحتفل العالم اليوم بعيد ميلاد الرب يسوع.
وبجانب الأهمية الدينية لهذه اليوم المبارك، يحولها إلى فرصة لالتئام الأسرة وسط هذه الهالة القدسية.
عيد الميلاد دعوة للبحث الدائم عن يسوع ، لكونه "الطريق والحق والحياة" ( يوحنا ١٤ / ٦ ).
فخارجا عنه ضياع وضلال وموت. إنه الطريق المؤدي إلى الحقيقة التي تعطي الحياة.
هو دليلنا إليه.
لقد أظهر ذاته لنا بتجسده لكي نجده، ونظل في بحث دائم عنه.