قد أحبّ الله العالم حتّى إنّه بذل ابنه، وحيده، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة.
لا لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلّص به العالم.
فمن آمن به لا يدان.
ومن لا يؤمن به فقد دِينَ لأنّه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد (يوحنّا ٣ / ١٦ -١٨).
يؤكّد لنا الرب يسوع في أكثر من موضع من الإنجيل أنّ الله خلق الكون ورتّبه وأعطى الإنسان مكانته المميّزة وموهبته الخاصّة انطلاقًا من محبّته له ومن إرادته في أن يشركه في حياته الإلهيّة ، كما ورد على سبيل المثال في إنجيل متّى حين يقول :
“تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملك المعدّ لكم منذ إنشاء العالم” ( متى ٢٥ / ٣٤ ).
كان في قدرة الله أن يجعلنا كاملين منزّهين عن الخطأ فنسير بشكل تلقائيّ إلى الاتّحاد به وإلى معرفته.
كان في قدرة الله أن يجعل من البشر أداة تسير نحو الجودة تلقائيًّا فلا تحتار بين الخير والشرّ ولا تحتاج إلى تمييز وتفكير قبل الإتيان بفعل ما أو عمل ما.
لكنّ الله لكونه الخير الأسمى أراد أن يكون للبشر دور فاعل في تدبيره فأعطى الإنسان نعمة العقل والتعقّل وفوق كلّ شيء وهبه حريّة الخيار لكي يتسنّى له أن يسير نحو السماء بمحض إرادته.
إنّ قوّة المحبّة الإلهيّة وسموّها يظهران في خلقه الإنسان حرًّا: يستطيع أن يسير نحو الله إن أطاع النعمة وتعقّل أو أن يبتعد عنه إن أعمت بصيرتَه القشورُ الخارجيّة.
لم يخلق الله تعالى مخلوقات تحبّه وتختاره بشكل تلقائيّ بل أعطى الإنسان القدرة على أن يحبّ الله ويختار الحياة معه.
لا شكّ أنّ هذه الموهبة خطيرة جدًّا إذ إنّ سوء استعمالها يعني ابتعاد الإنسان عن الله مصدر وجوده وينبوع حياته فينقلب هذا الابتعاد شرًّا وظلاماً وموتاً.
لكنّ التدبير الإلهيّ الأزليّ لا يتغيّر ولا يمكن لأيّ أمر أو أيّ حدث أن يعكّره.
فحتّى خطيئة الإنسان لم تدفع الله إلى التخلّي عنه كما قال ماربولس الرَسول : “إنّ الله قد برهن عن محبّته لنا بأنّ المسيح قد مات عنّا ونحن بعد خطأة” (روما ٥ / ٨ ).
بطبيعة الحال، لا ينفصل التدبير الإلهيّ عن قصد الله في الخلق؛ فإن كان الله قد خلق الإنسان حرًّا كذلك تدبيرُه الخلاصيّ يحافظ على حرّيّة الإنسان.
فقد كان في قدرة الله، وبكلّ بساطة، أن يمحو خطيئة الإنسان ويعيده إلى طريق الحياة لكنّه، من أجل أن يحافظ على حريّته وأعظم مواهبه، أرسل كلمته الأزليّة اللامحدودة وجعله ضمن الزمن لكي يعلّم الإنسانَ كيف يحسن استعمال حرّيته ومواهبه في خدمة مشيئة الآب أي في خدمة الخير الأعظم للإنسان.
إنّ احتفال الكنيسة السنويّ بعيد تجسّد الكلمة وميلاد الرب يسوع هو قبل أيّ أمر آخر احتفال بافتقاد الله لشعبه.
هو احتفال بمحبّة الله اللامتناهية لأنّه رضي أن ينزل إلى الإنسان الذي اختار الدمارَ عوض البناء، والظلامَ عوض النور، والموتَ الروحيّ في شركة الشرّ عوض الحياة مع الله، لكي يمسك بيده ويرشده إلى الطريق، لكي يجدّد فيه الإرادة ويوجّهها نحو الخير، لكي يحيي فيه ما مات بسبب الخطيئة وارتكاب الشرّ. حتّى حين يتنازل الله إلى البشر يحافظ على خاصيّة الإنسان فلا يدفعه إلى الحياة رغمًا عنه بل يجدّد فيه الإرادة وينير فيه الضمير لكي ينهض هو أيضًا بجهده من الحفرة التي أوقع نفسه فيها.
يقول للإنسان أنا الإله قد صرت إنسانًا مثلك لكي أنتشلك من نتائج أفعالك، لكي أريك ما معنى أن تكون إنسانًا وماذا ينبغي عليك أن تفعل لكي تفعّل النعمة التي منحتك إيّاها حين خلقتك.
لهذا لا نرى الرب يسوع ، كلمة الله، في حياته بين البشر، يقوم بإلغاء الشرّ بل بمواجهته، لا نراه يحجب قدرة الإنسان على ارتكاب الخطيئة بل يعلّم البرّ، لا نراه يمحو الألم بل يقبله حتّى أبشع الصور منه، وكلّ هذا لكي يعلّم الإنسان أنّه يستطيع أن يواجه الشرّ ويتعالى عن الخطيئة ويتقبّل الألم لكي يصير ابنًا لله.
لم يأت الكلمة لكي يحوّل هذا العالم إلى عالم مثاليّ بل لكي يعلّم الإنسان كيف يحوّل حياته اليوميّة إلى حياة سماويّة بعيش القداسة، لكي يزرع فيه الرجاء بأن يكون له نصيب في الحياة مع الآب.
هذا الأمر لا يمرّ إلّا عبر الآخر الذي يعيش معي بجواري أو يشاركني في الوطن وفي الإنسانيّة.
بهذا نفهم قول مار بولس إلى أهل روما : “أحبّوا بعضكم بعضاً حبّاً أخويّاً ، وليحسب كلّ واحد الآخرين خيراً منه؛ كونوا على غير توانٍ في الغيرة، وعلى اضطرام بالروح: فأنتم تخدمون الربّ.
وليكن فيكم فرح الرجاء؛ كونوا صابرين في الضيق، مواظبين على الصلاة”. آمــــــــــــين.