HTML مخصص
17 Apr
17Apr

“نسجد لك أيّها المسيح ونباركك ، لأنّك بصليبك المقّدس خلّصت العالم”


نحتفل اليوم بسرّ موت ربّنا يسوع المسيح ، إبن الله ، لفدائنا،  وفداء الجنس البشريّ ، من خطايانا على مرّ الأزمنة حتى نهايتها.

هكذا حوّل إلى ذبيحة فداء جريمة قتله ، وهي أفظع جريمة في تاريخ البشريّة إذ الإنسان فردًا وجماعات قتل الله الإبن يسوع المسيح :  اليهود شعب الله بالحقد والحسد والبغض والرفض ، والرومان الوثنيّون المحتلّون بالمساومة والخوف من هيجان الشعب والهروب من الحقيقة والعدالة. 

أمّا خشبة الصليب ، في الأصل أداة تحقير المجرمين وقتلهم ، فحوّلها الإله المصلوب إلى أداة خلاص للعالم ، وانتصارٍ للمؤمنين أمضى من أي وسيلة أخرى ، ونهجِ حبٍّ لكلّ مؤمن ومؤمنة. 


- واليوم يسوع المعلّم نفسه المعلّق على الصليب وكأنّه عرشه ، يستكمل دستور الحياة المسيحيّة بثماني كلمات إضافيّة ، جعلها نهجًا لنا عاشه هو قبلنا. 


- ⁠ثلاث منها قالها قبل وقوع الظلام على الأرض كلّها ، الذي دام ثلاث ساعات من الظهر حتى الساعة الثالثة.( متى ٢٧ / ٤٥ ).


- ⁠وواحدة عند حلول الظلام.
- وثلاث كلمات بعده.
- ⁠والكلمة الثامنة والأخيرة من صمت موته. 

" الكلمات قبل حلول الظلام"


١- “ يا أبتِ إغفر لهم …”  ( لوقا ٢٣ /  ٣٤ ).

- قالها عندما كان الصالبون يغرزون المسامير ويستهزؤون به. 

- ⁠إنّها بطولة معاملة الشرّ بالخير والصلاة.
الغفران أقوى وأفعل من السلاح ، لأنّه يضع حدًّا للشرّ  ، فيما السلاح يستولده.

٢- "اليوم تكون معي في الفردوس"  (لوقا  ٢٣ / ٤٣ ). 

- قالها يسوع للمجرم المصلوب عن يمينه عندما عبّر عن توبته. 

- ⁠والتوبة بطولة أيضاً لأنّها إقرار بالخطايا والزلّات والنواقص بدافع من التواضع. 

- ⁠فالمتكبّر لا يقرّ بخطاياه  ، والحاقد لا يستطيع أن يغفر ويسامح.
بهاتين الكلمتين الأوّليين ، علّمنا يسوع بطولتين  : الإستغفار  ،  والغفران. 

٣- “ يا امرأة ، هذا ابنكِ ، ويا يوحنّا هذه أمّك ” (يوحنَّا ١٩ /  ٢٦ - ٢٧ ).

- قالها يسوع في غمرة الألم والدموع لرؤيته على أقدام الصليب الأحبّين  : أمّه ويوحنّا الحبيب وهما مثله مكسوران بالألم والدموع ، فحوّل كلّ هذه الآلام إلى“ أوجاع مخاض”.

فجعل أمّه أمّ البشريّة جمعاء ، وجعل كلّ إنسان ، بشخص يوحنّا ، إبناً لمريم.

إنّها الأمومة الجديدة : في فرح البشارة أصبحت مريم عذراء الناصرة أمّاً ليسوع التاريخيّ ، وفي آلام الصليب أصبحت أمّ المسيح الكلّي أي الكنيسة ، المتمثّلة فيها البشريّة حتى نهاية الأزمنة.


٤-  “ إلهي إلهي ، لماذا تركتني ؟ ، (متى ٢٧ / ٤٦ ).

- قالها عندما غطّت الظلمة الأرض كلّها ؛ فشعر يسوع الإنسان الضعيف بالعزلة الكاملة ، متروكاً  من الله والناس. 

- ⁠ومع هذه الصرخة واصل صلاته بنداء إستغاثة وبإيمان منه بأنّ المستغيث بالله لا يُردّ خائباً. 

- ⁠كم من النفوس تصلّي مثله في ساعات الوجع والنزاع !.


٥ -  “ أنا عطشان ” (يوحنَّا  ١٩ /  ٢٨ ).

- قالها بعد زوال الظلمة ، يخنقه العطش من التعب والدماء والصلب ، فأُعطي خلًّا. 

- ⁠لكنّ يسوع بآلامه وعطشه وموته أعطى الماء الحيّ ، الروح القدس ، الذي يُروي كلّ عطشنا الروحيّ إلى المحبّة والعدالة والحقيقة والحريّة والسلام. 

- ⁠لكنّه بذات الوقت يوصينا بإرواء عطش إخوتنا البشر ، إذ قال  :  “ كلّ من سقى أحد إخوتي هؤلاء الصغار كأس ماء بارد من أجلي فلن يضيع أجره ” (متى ١٠ / ٤٢ ). 

- ⁠كـما تماهى مع كلّ عطشان إذ قال  : “  كنت عطشاناً  فسقيتموني  ” ( متى ٢٥ / ٣٥ ).


٦ -  " لقد تمّ كلّ شيء  " (يوحنَّا  ١٩ /  ٢٠ ).

- قالها يسوع للتعبير عن إرادته الكاملة للآب الذي أراده  ، بفيض من حبّه ، ذبيحة فداء عن خطايا البشر أجمعين ، من آدم حتى نهاية الأزمنة. 

- ⁠وهو القائل  :  “  أتيت لأعمل إرادتك يا الله  ” (عبرانيين  ١٠ / ٧ ). 

- ضميرنا يسأل كلّ واحد وواحدة منّا ومن الناس أجمعين  :  “ أين أنا من طاعتي لإرادة الله المتجلّية في رسومه ووصاياه وكتبه المقدّسة وتعليم الكنيسة وإيحاءات الروح القدس ، والطاعة للرؤساء الروحيّين ؟ .



٧ -  “  أبتِ ، بين يديك أستودع روحي  ” .(لوقا  ٢٣ /  ٤٦ ).

- قالها يسوع مسلّماً  روحه لأبيه الذي أرسله لخلاص العالم ويتخلّى عن حياته ليعطيها في سرّ الإفخارستيا حياة إلهيّة فينا. 

- ⁠هذه الكلمة قالها بقوّة وثقة  ، لأنّه بذل نفسه بإرادته الكاملة  ، وقد قال  : “  ليس أحدٌ يأخذ حياتي منّي ، بل أنا أضحّي بها راضيًا. 

- ⁠فلي القدرة أن أضحّي بها  ، ولي القدرة أن أستردّها ”(يوحنَّا ١٠ /  ١٨).

معزيّة هي هذه الكلمة نقولها قبل الرقاد ، وقبل رقدتنا الأخيرة. 



٨ -  “ جرى من قلبه دم وماء ” (يوحنَّا ١٩ / ٣٤).

- هذه الكلمة لم ينطق بها يسوع بلسانه الصامت بالموت ، بل من قلبه ، عندما طعنه أحد الجند برمح ، إمّا كضربة حقد أخيرة ، وإمّا للتأكّد من موته. 

- ⁠فكانت كلمته الصامتة هي الأبلغ ، لأنّها العلامة لولادة البشريّة الجديدة من محبّة قلبه العظمى من ماء المعموديّة ، ولتغذيتها من دم القربان. 

- ⁠هذه الكلمة الصامتة تعني ولادتنا ونشأتنا المسيحيّة من سرّي المعموديّة والإفخارستيا.

- ⁠البشريّة الجديدة مولودة من محبّة المسيح اللامتناهية.

مِن بعد كلماته الثمانيّة  نتأمل ونقول أمام صليبك المحيي ، يا ربّنا يسوع ، نسجد ونصلّي لكي من مدرسة حبّك نتعلّم المحبّة والبذل والخدمة والعطاء. 

- ساعدنا بنعمتك أن نعيش وننشر دستور الحياة المسيحيّة الذي تتركه لنا إرثاً ونهجاً  خلاصياً. 

- ⁠⁠اليوم مات من يخجل تواضعه وعذوبته صلابتنا ويحجّم كبرياءنا ويلجم سعينا المستميت إلى المجد الباطل !.

- فاليوم يومك يا من انتظرت طويلاً  إزاحة الكابوس عن صدر حياتك لتذهب وتفعل ما تشاء دون حسيب أو رقيبٍ فالسماء في حداد والأرض في عطلةٍ رسميّة والناس منشغلون في إعداد دفنٍ لائق لمن أعطاهم كلّ شيء : جسده قرباناً وروحه ميراثاً وأمّه شفيعةً وتلاميذه كنيسة !.

- ⁠إذهب ،  إن شئت ،  وافعل ما يحلو لك فاليوم يتوقّف التنصّت الإلهي على حياتك وتتعطّل شبكة العناية الإلهيّة تاركةً لك متعة الانقياد بحريّة ، ( وأي حريّة ) خلف عبوديّة المال والجسد !.

إذهب ،  إن شئت  ، واغرق في ذاتك حتى السكر فاليوم أصبح الله ماضياً وأضحيت أنت الحاضر مكانه  ، الله الجديد ،  الأنا المطلق والذات المغلقة على الحبّ والبذل والعطاء ! ،ولكن ، قبل أن تمضي إلى ذاتك ، اسمح لي بأن ألفت نظرك إلى بعض ما قد تكون قد غفلت عنه.

أنظر إلى يسوع الميت واسأل ذاتك : مَن يحمل الصليب ، عليه أن يستعد للموت. 

- ومَن استعد للموت ، عليه أن يحتمل آلام الصَّلْب وما قبل الصَّلْب l. 

- ⁠فقبل أن تحمل الصليب أعدد نفسك للآلام !

- ⁠طوبى للإنسان الذي لا يخشى الموت ، وأسعد منه هو الإنسان الذي مات عن العالم وصَلَبَ أهواءه مع شهواته ! ، هذا هو تاج الصليب أن نُصلَب نحن ، ولا نَصلِب أحداً معنا!!.

- كان لابد أن يقول المسيح هذا ويطلب المغفرة لصالبيه حتى لا يكون في صلبه صلبٌ لأحد ،  ولا يكون في موته موتٌ لأحد ؛  بل يموت هو ليُعطي الحياة لجميع الناس!!. 

- هذا هو الذي قال لنا : " أحِبُّوا أعداءكم" . 

- باركوا لاعِنيكم. 

- أحسِنوا إلى مُبغضيكم. 
وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم " . (متى ٥ / ٤٤ ).

- احملوا الصليب.

-  يا أولادي الآحباء : ولكن أعود فأقول ليس صليب الذهب ذو السلاسل الجميلة ؛  ولكن صليب الموت ، الموت عن العالم ، الصليب ذو الآلام ، وذو الصَّفْح والغفران .   آمين.



/الخوري جان بيار الخوري/
تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.